تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كل هذه الدلالات كامنة في (إن) فإذا أضيف إليها عوامل توكيدية أخرى أزداد الأمر حتى يصل إلى درجة القصر في نحو (أني أنا الغفور الرحيم).

ولكن البحث يبدأ من الصورة الأولى لجملة (إن) وهي جملة:

إن الله غفور رحيم

وقد وردت هذه الصورة في القرآن الكريم ثلاثاً وعشرين مرة، وذلك في [البقرة 173 – 182 – 192 – 199 –226] [وآل عمران 89 – 155] [والمائدة 3 – 39 – 98] [والأنفال 69] [والتوبة 5 – 99 – 102] [والنحل 18 – 115] [والنور 5 – 69] [والحجرات 14] [والمجادلة 12] [والممتحنة 12] [والتغابن 14] [والمزمل 20].

والسياق العام لهذه المواضع يبدو فيه وجود الذنب ثم تأتي جملة (إن الله غفور رحيم) لتبين الحكم الصادر على هذا الذنب وأن المحكمة الإلهية قد برأت ساحتهم وقررت عدم مؤاخذتهم، وذلك إما بسبب الاستغفار أو أنه فعل الذنب اضطراراً، أو كانت نيته الإصلاح، أو أنه لم يكن عامداً حين أذنب، أو نحو ذلك من الأمور التي تُبرز عذرهم في حدوث هذا الذنب، و هو ذنب غالباً ما يكون في شأن الأرزاق والمطعم والمشرب ونحو ذلك ففي سورة البقرة يقول الله تعالي:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة 172:173)

فاسمه الغفور هنا مرتبط بالاضطرار، والاضطرار مغفور ما دام خالياً من بغي أو عدوان 0

ويلحق بهذه الآية آيات متشابهة في رفع الحرج في المطعومات وذلك كما في قوله تعالي:

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:3)

وقوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (لأنفال:69)

وتنكير الاسم الجليل (غفور) لأن المغفرة ليست خاصة وليست محل نقاش بل هي أشبه بالحقائق، حتى في جانب الخلق إذا تعامل بعضهم مع بعض، واضطر أحدهم إلى المخالفة، الأصل أن يَغفرَ الآخر، هكذا يقول المنطق السليم والطبع القويم، هذا في الوقت الذي يرى فيه أهل القرب من الله تعالي وجها ً أعلى وأرقى حيث يقولون: [إنه لا يصل إلى حال الاضطرار إلى ما حرم عليه أحدٌ إلا عن ذنب أصابه، فلولا المغفرة لتممت عليه عقوبته؛ لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة، لأن الله تعالي لا يعجزه شيء، وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجزه ربه (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (الروم:49)

فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين ودون رتبة الإيمان.

ولقد جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً ففنيت أزوادهم، فأقاموا أياماً يتقوتون بيسير، حتى تقوتوا بتمرة تمرة، فأخرج الله لهم العنبر، دابة من البحر

فلم يحوجهم في ضرورتهم إلى ما حرم عليهم، بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب مأكلهم في حال السعة من صيد البحر الذي هو الطهور ماؤه الحل ميتته]

وهذا يعني – كما يرى البقاعى – رحمه الله – أن اسمه (الغفور) تحت عباءته معنى العتاب، وهذا امتداد آخر في مساحة المعني في اسمه الغفور.


ولا يبعد هذا المعني عن الآية رقم 182 والتي فيها:
(فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
حتى أن جملة (فلا إثم عليه) تفوح برائحة العتاب لأن الأمر حتى وإن كان بقصد الإصلاح إلا أنه في النهاية تغيير للوصية، حتى قال العلامة ابن عاشور - رحمه الله – إن الآية فيها [تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجاً للإذن من الله تعالي ... ]
وعمد الفخر الرازي-رحمه الله - إلى بيان وجه المجئ بهذه الجملة، وأخذ يعلل لها ويبين وجه المقصود منها حتى قال: [لقائل أن يقول: هذا المصلح قد أتي بطاعة عظيمة في هذا الإصلاح وهو يستحق الثواب، فكيف يليق به أن يقال:
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير