[تأملات في أحوال الجوارح يوم القيامة ـ الجزء الثاني (أحوال الوجه)]
ـ[عمر المقبل]ــــــــ[18 Jan 2004, 01:15 م]ـ
سبق أن أشرت في المقالة الماضية إلى أحوال البصر في ذلك الموقف العظيم، وما يسبقه من مقدمات وإراهاصات، وفي هذه المقالة، سأشير ـ وباختصار ـ إلى أحوال الوجه يوم القيامة:
بعدما يرى أهل الموقف من الأهوال ما يرون، وحين يجاء بجهنم تجثو الأمم على ركبها من هول ذلك الأمر وفظاعته، ولا أجد وصفاً أعظم ولا أبلغ من وصف العليم بتلك الأحوال سبحانه، حينما قال سبحانه ـ عن عباده الصالحين ـ: (يخافون يوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالآبْصَارُ).
هناك ـ وفي ذلك اليوم ـ تنقسم وجوه الخلق يوم القيامة إلى قسمين اثنين فقط، يوضح ذلك قوله تعالى:
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وهذا كقول الله تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ).
ولك أن تتصور أن هذه الوجوه المسودّة ـ والعياذ بالله ـ لم تصل إلى أرض المحشر إلا بعد أن ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، عند الاحتضار، وقبل الانتقال إلى عرصات الموقف، كما قال سبحانه: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)، وكما قال U : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ).
بل لقد أيقنوا بإفلاسهم،وسوء حالهم منذ أن رأوا الأمر عياناً، كما قال الله U : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ).
إنها ـ كما قال الله ـ (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (أي كالحة عابسة) تظن (أي تستيقن) أن يفعل بها فاقرة (أي: داهية عظيمة) ...
إنها وجوه يومئذٍ (عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أؤلئك هم الكفرة الفجرة)، فهي وجوهٌ علاها الغبار، وغشاها القتار،وهو شبه الدخان، يغشى الوجه من الكرب والغم.
واستمع إلى سبب ذلك في قول ربك جل جلاله: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فإذا كان هذا حال هذه الوجوه وهي في العرصات، لم تدخل النار بعد، فما ظنكم بالطريقة التي ستحشر بها هذه الوجوه الكالحة المسودة المكفهرة؟ وإلى أين؟ إلى النار!!
استمعوا إلى قول U : ( إن المجرمين في ضلال وسعر*يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ...
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) ...
(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً).
حتى إذا ما وصلوا إلى النار ألقوا وكبوا كباً كما يكب الشيء الذي يلقيه صاحبه إلقاء المبغض الكاره: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ...
فلعلهم يستطيعون أن يهربوا هنا أو هناك! (يَقُولُ الآنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟)
فيأتي الجواب القاطع لكل احتمال يمكن أن يتردد في قلوب أولئك: (كَلا لا وَزَرَ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)، (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).
فإذا كان هذا حالها وهي تحشر إلى النار، فما ظنك بهذه الوجوه بعد أن تلفحها النار بلهبا المحرق؟
¥