أوجهُ تفسير: (العذابِ الأدنَى) في قوله تعالى: (و لنذِيقَنَّهم من العذاب الأدنى ... ).
ـ[أبو تيمية]ــــــــ[03 Dec 2003, 12:51 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
أوجهُ تفسيرِ: (العذابِ الأدنَى) المذكُورِ في قوله تعالى: (و لنذِيقَنَّهم من العذاب الأدنى دون العذابِ الأكبرِ لعلَّهم يرجِعُونَ).
الحمدُ لله الذي قدَّر فهدى، و صلَّى الله و سلَّم على خير مَنْ وطئ الحصى، و على آله وصحبه أولي الفضائل و النُّهى، أمَّا بعدُ:
فعند النظر و البحث في كتب التفاسير عن معنى قوله تعالى: (و لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) نجد أنَّ (العذاب الأدنى) تنوَّع تفسيره، حتى قيل: بأنه عذاب القبر!، و هو أحدُ أوجُهِ التفسيرِ المأثورةِ عن السَّلَف.
فهل هو معنًى محتمَلٌ صَحِيحٌ؟
و قبل الانتهاءِ إلى الإجَابَة على السُّؤال = أُبيِّنُ الأوجهَ المأثورةَ في تفسير العذابِ الأدنى ثمَّ نعرِّجُ على السؤال، فأقول – و بالله التوفيق:
الوجه الأول: أنه المصيبات التي تصيبهم من مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلي الله بها العباد حتى يتوبوا، و هذا و نحوه المأثور عن ابن عباس 1و أبي بن كعب 2 و أبي العالية 3 والحسن 4و إبراهيم النخعي5 والضحاك 6و عن غيرهم.
و الثاني: أنه الحدود، روي هذا عن ابن عباسٍ 7.
و الثالث: أنه القتل، و قيده بعضهم فقال: بالسيف، و عينه بعضهم فقال: كان ذلك يوم بدر.
وهذا المأثور عن ابن مسعود 8و أبي بن كعب9 و الحسن بن علي10 و عبد الله بن الحارث بن نوفل 11 و ا لسدي 12 و غيرهم.
و الرابع: القتل و الجوع لقريش في الدنيا، أو سنون أصابتهم أو عذاب الدنيا.
و قد جاء هذا المعنى عن: ابن مسعود 13 و مجاهد 14 و إبراهيم15 و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم 16، و المعاني الثلاث متداخلة، و بعضها أخص من بعض، و هي أفرادٌ لمعنى عامٍ.
و الخامس: أنه عذاب القبر.
و روي هذا عن: البراء بن عازب 17أو أبي عبيدة و عن مجاهد 18، لكنه لا يثبت عنهما.
و قد ساقه بعضهم وجها من أوجه التفسير،بل وجَّهه بعضهم، كما ضعَّفه آخرون:
1 – قال القشيري: (وقيل عذاب القبر وفيه نظر لقوله: (لعلهم يرجعون)) (تفسير القرطبي 14/ 107).
2 – و قال الطوفي: (زعم بعضهم أن العذاب الأدنى: عذاب القبر، و العذاب الأكبر: عذاب النار، و هو ضعيف بل باطل، لأنه علل إذاقتهم العذاب الأدنى برجوعهم عن كفرهم بقوله: (لعلهم يرجعون) و في القبر استحال رجوعهم إلى الدنيا، و إنما العذاب الأدنى يشبه أن يكون السنين التي أصابتهم على عهد النبوة المذكورة في سورة الدخان) (الإشارات الإلهية 3/ 125).
3 – و قال ابنُ القيِّم و هو يسوق الآيات المثبتة لعذاب القبر: ومنها قوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون)، وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس 19 على عذاب القبر؛ وفي الاحتجاج بها شيء؛ لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر ولم يكن هذا ما يخفى على حبر الأمة و ترجمان القرآن، لكن من فقهه في القرآن ودِقَّة فهمه فيه = فَهِمَ منها عذابَ القبر، فإنَّه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين: أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا، ولهذا قال: (من العذاب الأدنى) ولم يقل: و لنذيقنهم العذاب الأدنى، فتأمَّله.
و هذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم " فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها" و لم يقل: فيأتيه حرّها وسمومها، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره، والذي ذاقَه أعداءُ الله في الدنيا بعضَ العذاب وبقى لهم ما هو أعظم منه) (الروح ص 208 - 209).
و هذا توجيه حسنٌ، و يفهم منه أن العذاب الأدنى أوَّلُه في الدُّنيا و آخرُه و منتهاه عذابُ القبر، و الذي يذوقونه في الحياة الدنيا قبلَ الموت هو ذلك المبعَّضُ في الآية: (من العذاب)، و لذا فلا اختلاف بين أولها وآخرها و هو قوله: (لعلهم يرجعون)، لأنه عذاب قبل الموت.
لكن يبقى إشكال؛ و هو أن العذاب البرزخي من غير جنس العذاب الدنيوي، و يختلف عنه، و الظاهر من قوله: (من العذاب الأدنى) أن العذاب جنسه واحد، لأنه بعضٌ منه، فكيف يستقيمُ هذا؟
¥