تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالمغفرة هنا تأتي في سياق الحب، والعطف لتكتسب مساحة أخرى من الدلالة أرقى وأسمى لأنها في شأن الذاكرين المبتهلين، القوامين بالليل والنهار، أو الحجاج المهللين، المفيضين من عرفات، ولا يخفى هنا ما في الإظهار لاسم- الله في سياق الإضمار ليتناغى التكرار لاسم الله مع الذكر، ويتساوق الإظهار مع مقام رفع الصوت بالتهليل، والاستغفار عند الإفاضة من عرفات.


وقد يأتي اسمه (الغفور) لبيان الفارق بين أفعال الله تعالي وأفعال العباد تجاه نعمه التي لا عد لها ولا إحصاء0
ولقد وردت آيتان في شأن البيان عن نعم الله –تعالى- فقيل (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (النحل:18)
لكن الآية الأولى ختمت بجملة (إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم:34)
والأخرى ختمت بجملة (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) النحل 18
ذلك لأن آية إبراهيم كانت في شأن عد أفعال العباد وفي سياق قبح هذه الأفعال وبخاصة أفعال الكافرين حيث قيل من أول السورة عنهم أنهم:
(يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ..
ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ...
ردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا ... وإنا لفي شك
بدلوا نعمة الله كفراً ....
أحلوا قومهم دار البوار ...
جعلوا لله أنداداً ....
كل ذلك في سرد أفعال العباد، فلما جئ إلى عد نعم الله تعالي ناسب أن يذكر موقفهم تجاه هذه النعم فقيل.
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم:34)
لكن السياق يختلف في سورة النحل لأن الحديث فيها ليس عن أفعال العباد ولكن عن أفعال الله تعالي:
فمن أول السورة تسمع هذه العطاءات
ينزل الملائكة بالروح من أمره
خلق السماوات والأرض بالحق
خلق الإنسان من نطفة
الأنعام خلقها لكم
أنزل من السماء ماءً لكم
ينبت لكم به الزرع ...
سخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه ..
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه ...
كل هذه أفعال الله تعالي ونعمة التي لا عد لها فلما ذكرنا بهذه النعم ناسب أن يختم بوصف آخر.
فقال (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:18)
يقول الزركشي: [ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد لنكتة لطيفة، وذلك قوله في سورة إبراهيم (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)
وقال في سورة النحل (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)
قال القاضي ناصر الدين بن المنير:
كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوماً وكونك كفاراً ...
ولي عند إعطائها وصفان، وهما أني غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء.]

إن ربك من بعدها لغفور رحيم
هذا نوع آخر من جملة (إن) حيث يأتي بدلاً من اسم الله اسم الرب، ويفصل بين الاسم والخبر بشبه الجملة (من بعدها) أو (من بعد ذلك).
وهذا الفاصل الذي حشر بين اسم إن وخبرها كأنه إضافة أراد القرآن استحضارها عند ذكر المغفرة، لأن المغفرة لا تكتمل إلا بوجود هذا الأمر في الصورة معها حتى تراه العين ملاصقاً للمغفرة.
وقوله (من بعدها) أو (من بعد ذلك) تذكير بالذنب و استحضار له.
فأي ذنب هذا أراد القرآن حضوره ليعلم دلالة الغفور وقيمة هذه الدلالة؟
إنها ذنوب عظيمة من شاكلة (عبادة العجل من دون الله تعالي)
ومن شاكلة سلب اختصاص الله تعالي بالتشريع ليزاوله العباد.
ومن شاكلة إكراه الإماء على الزنا ...
إنها ذنوب تستوجب النار وبعضها يستوجب الخلود فيها، لذلك كان استحضارها في صورة المغفرة إنما هو بيان لمقدار هذه المغفرة، وعظم الغفور سبحانه كما أن الحديث هنا كان عن ذنوب تحققت فيها التوبة بالفعل فناسب ذلك إلحاق اسم الرب بجملة المغفرة للإشارة إلى تحقق المغفرة، فمن دلائل التعبير باسم الرب تحقق الفضل والمغفرة والرحمة، لأن الرب هو المربي وهو أيضاً الخالق الرازق المدبر لشؤون العباد ....
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير