: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعًا على أن ذلك معناه ".
موقفه من القراءات:
كذلك نجد أن ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة، وكثيرًا ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة، والتي تقوم على أصول مضطربة مما يكون فيه تغير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر مع توجيه رأيه بالأسباب، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (81) من سورة الأنبياء (ولسليمان الريح عاصفة) يذكر أن عامة قراء الأمصار قرءوا (الريح) بالنصب على أنها مفعول لـ "سخرنا" المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (الريح) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التي لا استجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه.
سبب عناية ابن جرير بالقراءات:
ولقد يرجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتى أنهم ليقولون عنه: إنه ألف فيها مؤلفًا خاصًا في ثمانية عشر مجلدًا، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها من المشهور، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا، شأن الكثير من مؤلفاته.
موقفه من الإسرائيليات:
ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلي، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وابن جريج والسدي، وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة النصارى، ومن الأسانيد التي تسترعي النظر، هذا الإسناد: حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبي عتاب .. رجل من تغلب كان نصرانيًا عمرًا من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه في الدين، وكان فيما ذكر، أنه كان نصرانيًا أربعين سنة ثم عمر في الإسلام أربعين سنة.
يذكر ابن جرير هذا الإسناد ويروي لهذا الرجل النصراني الأصل خبرًا عن آخر أنبياء بني إسرائيل عند تفسيره لقوله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) (الإسراء/7).
" .. وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة.
وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيرًا من هذه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التي اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلي، على أن ابن جرير ـ كما قدمنا ـ قد ذكر لنا السند بتمامه في كل رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات.
احتكامه إلى المعروف من كلام العرب:
وثمة أمر آخر سلكه ابن جرير في كتابه، ذلك أنه اعتبر الاستعمالات اللغوية بجانب النقول المأثورة وجعلها مرجعًا موثوقًا به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها، وترجيح بعض الأقوال على بعض.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كلٍ زوجين اثنين .. ) (هود/40) نراه يعرض لذكر الروايات عن السلف في معنى لفظ التنور، فيروى لنا قول من قال: إن التنور عبارة عن وجه الأرض، وقول من قال: إنه عبارة عن تنوير الصبح، وقول من قال إنه عبارة عن أعلى الأرض وأشرفها، وقول من قال: إنه عبارة عما يختبز فيه .. ثم قال بعد أن يفرغ من هذا كله: " وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله (التنور) قول من قال: التنور: الذي يختبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب.
رجوعه إلى الشعر القديم:
كذلك نجد ابن جرير يرجع إلى شواهد من الشعر القديم بشكل واسع، متبعًا في هذا ما أثاره ابن عباس في ذلك، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادًا .. ) (البقرة/22) يقول ما نصه: " قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العدل والمثل، كما قال حسان ابن ثابت:
¥