تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سألت الشيخ عن حاله فأجاب بدعوة رجوت إجابتها، فكررت السؤال فكرر الدعاء قائلا: أسأل الله أن يجمعنا وإياكم في دار كرامته، فقرأت فيها جوابا عريضا كعرض عشرين عاما عرفت فيها الشيخ، فأحببت مؤانسة الشيخ وإعانته على حسن الظن بالله وذكرته بسابق خدمته لكتابه، فما أتم سماع حديثي بل واصل ما أشغل به حياته من ذكر الله، ثم بدرت مني بادرة التذكر، فجرى على لساني مالاح في خاطري:

تذكرت والذكرى تهيج على الفتى = ومن عادة المحزون أن يتذكرا

فكأني هيجب من الشيخ ماهو معرض عنه، وأجابني إجابة الأوقياء حين تختلط الذكرى بدموع الأتقياء، فنهض أبنه عبدالله ومسح الدمع من عيني والده، ورحم الله على ابن الجهم:

وجربنا وجرب أولونا= فلا شئ أعز من الوفاء

لم أستطع مواصلة الحديث مع الشيخ لضعفه عن الكلام أصلا، ولضعفي عن مواصلته فصلا، فدعوت للشيخ بمادعى به لنا وقبلته وانصرفت لا ألوي على شئ إلا قطع من الليل أدس فيه أحزاني، ومفاوز من الصحراء أشتت فيها أشجاني، حتى طرقت باب بيتي مع شروق الشمس، وكنت قد قطعت قرابة الألف ألف من الأمتار.

كنت قد سألت ابنه عبدالله عند انصرافي عن تقديم أي عون أو مساعدة، فأعلن شكره وأخبرنا بأن الشيخ قد رفض إخراجه من بيته لأي ظرف أو عارض يطرأ، قال: فهو يرى أن هذا هو مرضه الذي سيودع معه الدنيا، سيودع ثلاثون عاما تقضت ساعات ليلها ونهارها بين طلاب العلم في مسجد مشيع وجامعة الإمام من أرض الضباب والمروج الخضر، سيودع خمس عشرة سنة قضاها في أكناف المدينة النبوية معلما لكتاب الله قائما به قياما عجبا، سيودع حياة امتدت قرابة التسعين عاما كلها حياة علم وسنة وإسلام وإيمان.

كذلك نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا.

أقول هذا وانقله مع إيماني بأنها لا تدري نفس بأي أرض تموت، وأن الله على كل شي قدير، إلا أن علمنا عن سنن الله في الحياة والكون، واستفاضة ما سمعنا من أخبار الصالحين من قومنا ومن حدثنا عنهم التاريخ بحديثهم عن دنو أجلهم، يدعونا للتسليم دون الجزم بشئ من ذلك.

فكم من صحيح مات من غير علة= وكم من سقيم عاش حينا من الدهر

فمن أراد زيارة الشيخ، أو كان يرى وجوب ذلك عليه، فقد اطلع على ما كتبت، وأمر الله من وراء كل أمر، وهو وحده القادر المتصرف في الحياة والموت، فنسأله سبحانه أن يرزق الشيخ حسن الخاتمة، وأن يجمعنا به في دار كرامته.

والحمد لله في البلاء حمدا لا يعدله إلا حمدنا له في السراء وسؤالنا له دوام العافية.

وهل يرثي الحي نفسه حين شعوره بدنو أجلها، مالك بن الريب التميمي من أولئك فاسمعه وهو يبكي نفسه رحمه الله:

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً = بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا

فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه = وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا

لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى = مزارٌ ولكنَّ الغضى ليس دانيا

ألم ترَني بِعتُ الضلالةَ بالهدى = وأصبحتُ في جيش ابن عفّانَ غازيا

وأصبحتُ في أرض الأعاديَّ بعد ما = أرانيَ عن أرض الآعاديّ قاصِيا

أقول وقد حالتْ قُرى الكُردِ بيننا = جزى اللهُ عمراً خيرَ ما كان جازيا

إنِ اللهُ يُرجعني من الغزو لا أُرى = وإن قلَّ مالي طالِباً ما ورائيا

تقول ابنتيْ لمّا رأت طولَ رحلتي = سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا

لعمريْ لئن غالتْ خراسانُ هامتي = لقد كنتُ عن بابَي خراسان نائيا

فإن أنجُ من بابَي خراسان لا أعدْ =إليها وإن منَّيتُموني الأمانيا

فللهِ دّرِّي يوم أتركُ طائعاً = بَنيّ بأعلى الرَّقمتَينِ وماليا

ودرُّ الظبَّاء السانحات عشيةً = يُخَبّرنَ أنّي هالك مَنْ ورائيا

ودرُّ كبيريَّ اللذين كلاهما= عَليَّ شفيقٌ ناصح لو نَهانيا

ودرّ الرجال الشاهدين تَفتُُّكي =بأمريَ ألاّ يَقْصُروا من وَثاقِيا

ودرّ الهوى من حيث يدعو صحابتي = ودّرُّ لجاجاتي ودرّ انتِهائيا

تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ = سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا

وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه = إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيا

ولكنْ بأطرف (السُّمَيْنَةِ) نسوةٌ = عزيزٌ عليهنَّ العشيةَ ما بيا

صريعٌ على أيدي الرجال بقفزة = يُسّوُّون لحدي حيث حُمَّ قضائيا

ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي = وخلَّ بها جسمي، وحانتْ وفاتيا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير