تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذه الظاهرة قد بحثت في هذا الملتقى أكثر من مرة، وكما ذكرت أنت فقد أشار الشيخ الفاضل عبد الرحمن الشهري إلى مقال الأستاذة رفاه زيتوني. وقد فهمت من تعليقه على تلك الإشارة أنه يريد وضع حد لهذا الموضوع اكتفاء بما ذكرته الأستاذة الفاضلة في مقالها. ولكن يبدو من مشاركات بعض الأعضاء أنهم لم يقرؤوا المقال، أو أنهم قرؤوه، ولكن لم يجدوا فيه ما يشفي غليلهم، فاستمروا في النقاش والاختلاف. وكنت من المشاركين في ذلك الحوار. ولما رأيتهم مختلفين توقفت عن الحوار.

وكنت قد وجهت سؤالاً للأستاذ الفاضل محمد إسماعيل عتوك سألته فيه عن رأيه في هذه الظاهرة، فأجابني جواباً اقنعني، احتفظت به لنفسي، ولم أطلع عليه أحداً لأنني رأيت بعض الأعضاء في الملتقى تقشعر أبدانهم لمجرد سماعهم باسم الأستاذ محمد. ولست أدري لماذا؟ وأذكر من بين هؤلاء واحداً اسمه المقرىء وكان قد وجه خطاباً إلى الأستاذ محمد يقول له فيه: (لقد ركبت مركباً لم تؤمر به. بل نهيت عنه) لأنه ذكر أن جواب (فلما) في قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه) هو قوله تعالى: (وأوحينا) وذكر أن الواو رابطة للجواب، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف: 102).

وهذا هو موضوع سؤالك الذي تسأل عليه على الرابط الآخر.

وأنصحك أن لا تطرح مثل هذه الأسئلة بعد الآن لأنك لن تجد من يجيبك عليها. أما عن أسئلتك هذه فسأضع بين يديك الجواب الذي احتفظت به طوال تلك الفترة، لأسباب ذكرت واحداً منها. وهذا هو الجواب:

أولاً- ينقسم القسم بحسب المقسَم عليه وبحسب الحاجة إليه إلى قسمين:

الأول: مثبت. وهو الذي يكون فيه المقسَم عليه من الأمور التي تكون مظنة للشك من قبل المخاطب. وأمثلته في القرآن كثيرة .. منها قوله تعالى: و (التين والزيتون) .. (والشمس وضحاها) .. (فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون).

وفي هذا القسم يكون المقسم هو الله تعالى. ويكون المقسم هو العبد. والفرق بينهما أن العبد يقسم بالله ... وأن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته .. وهذا لا خلاف فيه.

والثاني: منفي. وهو نوعان:

أولهما: يختص المقسِم فيه بالعبد يقول: (لا أقسم) إما لسوء عاقبة الكذب في القسم. أو لسبب آخر.

فـ (لا) هنا نافية للقسم. و (أقسم) فعل منفي. وهذا واضح: تقول: أقسم، ولا أقسم. والأول مثبت، والثاني منفي. (وهذا هو الذي قصده ابن عاشور، وذهب فيه إلى أن (لا) فيه مزيدة للتوكيد. ولو كانت كما قال: لما عرف النفي من الإثبات).

وثانيهما: يختص المقسِم فيه بالله تعالى. ومنه ما وقع في القرآن من أقسام مسبوقة بـ (لا).

كما في قوله تعالى:

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:75 - 77).

فهذا تلويح بالقسم. و (لا) على أصلها الذي وضعت له من الدلالة على النفي، وأدخلت على الفعل (أقسم) لسر بديع من أسرار القرآن، وهو نفي الحاجة إلى القسم، كما ذهبت الدكتورة بنت الشاطىء، وفصلت القول فيه الأستاذة رفاه زيتوني.

والمقسِم هو الله تعالى، والمقسَم عليه هو القرآن الكريم. وهو من الأمور اليقينية الثابتة التي لا يتطرق الشك إليها أبداً، والتي لا تحتاج إلى أن تؤكد بالقسم. فالمقام لا يحتاج إلى قسم، فضلاً عن أن المقسِم هو الله جل وعلا.

ولو سلمنا أنه قسم- كما يقولون- فكيف يقسم ربنا على قرآن كريم أعلن عجز الإنس والجن على الإتيان بمثله، ولو اجتمعوا على ذلك وتظاهروا عليه، أو الإتيان بسورة من مثله؟ ألا ترى أن في القسم عليه وضعه موضع المشكوك فيه؟ وممَّن؟ من الله تعالى قائل هذا القرآن. والشك في القرآن هو شك في قائله، تعالى الله والقرآن عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ومن يعرف هذا، يدرك خطورة القول بأنه (لا أقسم) قسم، سواء في ذلك قول من قال: إن (لا) زائدة للتوكيد. أو أن أصلها لام أشبعت حركتها، فصارت ألفاً. أو أنها نافية لكلام سبق. ومن أصرَّ على واحد من هذه الأقوال التي تجعل من (لا أقسم): (أقسم). أو (لأقسم).أو (لا). (أقسم) بعد هذا البيان المفصل، فإنه ملحد بآيات الله جل وعلا دون أن يدري. فليتنبه إلى ذلك من يفسر القرآن، وليكن على حذر من أمره.

وأما عن تسميته قسماً لقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)، فأجاب فضيلته:

إن قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) لا يدل على أن (لا أقسم) هو قسم- كما يوحي بذلك ظاهر اللفظ- وإنما يدل على أنه تلويح بالقسم. وبيان ذلك:

أن قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) يحتمل أن يفهم منه المخاطب أن الله سبحانه لم يقسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم، لتفاهتها وحقارتها. فجاء قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) معترضاً بين القسم والمقسم عليه لإزالة هذا الاحتمال.

وهذا كقول من قال: لا أقسم بزيد على أن فلاناً كريم. فيقال له: إنك لم تقسم بزيد؛ لأنه تافه وضيع حقير. فلدفع هذا الاحتمال، يقول: لا أقسم بزيد- وإنه لقسم عظيم لو تعلمون- إن فلاناً لكريم. وبذلك يكون قد صان المعنى من ذلك الاحتمال.

ولهذا قال تعالى: (لو تعلمون)، ولم يقل: (كما تعلمون).

فمن عرف جوهر هذا الكلام الذي يتضمن هذه الأسرار الدقيقة البديعة لا بد وأن يسجد للخالق جل في علاه، وإن كان نصرانياًّ، أو يهوديًّا، أو مجوسيًّا، أو ملحداً ... نسأل الله سبحانه أن يرزقنا نعمة الفهم لكلامه، والإدراك لأسرار بيانه .. والحمد لله رب العامين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير