[اختصار كتب التفسير]
ـ[نايف الزهراني]ــــــــ[27 Apr 2006, 11:11 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه, وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فإن الأصل في نقل العلم نَصُّهُ إلى أهله, وفيه أنشد ثعلب:
ونُصَّ الحديث إلى أهله ... فإنَّ الوثيقةَ في نَصِّه [1]
والاختصار برزخٌ بين نَصِّ الحديث إلى أهله, وسرقته من أهله, ومن ثَمَّ حَذَّر من سلوكه جماعةٌ من العلماء [2] , وخافه جماعةٌ منهم على مصنفاتهم, ومن طريف ما يُذكَر في ذلك قول ياقوت الحموي في مقدمة كتابه: (معجم البلدان): (ولقد التمس منِّي الطلابُ اختصارَ هذا الكتاب مراراً, فأبيت, ولم أجد لي على قصر همهم أولياءَ ولا أنصاراً, فما انقدت لهم ولا ارعويت.
ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع نَصَبي, ونَصْب نفسي له وتعبي, بتبديد ما جمعت, وتشتيت ما لَفَّقت, وتفريق مُلتَئِم محاسنه, ونفي كل علقٍ نفيس عن معادنه = باقتضابه واختصاره, فربَّ راغبٍ عن كلمة غيرُهُ متهالكٌ عليها, وزاهدٍ في نكتةٍ غيرُه مشعوفٌ بها يُنضي الرِّكاب إليها, فإن أجبتني فقد بررتني, جعلك الله من الأبرار, وإن خالفتني فقد عققتني, والله حسيبك في عُقْبى الدار. وقد حُكيَ عن الجاحظ أنه صنَّف كتاباً, وبوَّبه أبواباً, فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء, وجعله أشلاء, فأحضره وقال له: يا هذا, إن المُصَنِّف كالمصوِّر, وإني قد صوَّرتُ في تصنيفي صورةً كانت لها عينان فعَوَّرتَهما, أعمى الله عينيك, وكان لها أذنان فصَلمتهما, صلم الله أُذنيك, وكان لها يدان فقطعتهما, قطع الله يديك. حتى عَدَّ أعضاء الصورة, فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار) [3] , ومع ذلك لم يسلم ياقوت ممَّن أغار على كتابه هذا بالاختصار. [4]
وفي علم التفسير تزداد المصنفات في كل زمان, وتتنوع مناهج الكتابة فيه وتتجَدَّد بحسب حاجة الناس وأحوالهم, وقد أدرك أهل العلم به واجب الجيل عليهم في كل عصر, فقربوه إليهم لفظاً ومعنىً, وسلكوا لذلك كُلَّ سبيل قولاً وفعلاً, فأحسنوا وأطابوا, وكان من مسالكهم في ذلك: الاختصار. والذي يتمثل غرضه الأسمى في: تقريب العلوم وتسهيلها.
ولئن كان الاختصار منهجاً معروفاً في كافة العلوم, فإنه في علم التفسير أشد ظهوراً وانتشاراً, ومن أظهر الأمثلة على ذلك: تفسير القرآن العظيم, لابن كثير رحمه الله, فقد أُلِّف في اختصاره- من المعاصرين فقط- اثنى عشر مختصراً, ولا تزال مختصراته تتتابع مع الأيام, ولا عجب في ذلك؛ فإن مؤلفه ما إن انتهى من تأليفه حتى اختصره تلميذه أبو المحامد عفيف بن سعيد بن مسعود الكازروني. [5]
ولعل في طبيعة علم التفسير من القابلية للتوسع, وبسط الكلام, ومَدِّ المعاني, ما يدعو العلماء به إلى تَحْديد أصول المعاني فيه مَرَّة بعد أخرى, وتَجْريدها مما علق بها من أنواع العلوم والمعارف الزائدة عن حَدِّ التفسير, وكذا استبعاد ما لا حاجة إليه من تلك المعلومات والزيادات التي تتغير بتغير الأزمان والحاجات.
وهم في هذا قد فقهوا الحاجة إلى الاختصار, وعلموا مقدار فوائده المرجُوَّة.
ويمكن إيضاح المنهج العام لأئمة التفسير في مختصراتهم في أربعة أغراض متلازمة متكاملة:
الأول: الاقتصار على متن التفسير الذي هو بيان المعنى, وما لابد منه لبيانه.
الثاني: اختيار أصح المعاني وأكملها.
الثالث: تقريب تلك المعاني في ألفاظ مفهومة متداولة في أزمانهم.
الرابع: انتقاء أقرب المعاني ارتباطاً بواقع الناس, وأشدها تعلُّقاً بأحوالهم, وذلك عند تساوي المعاني في الصحة, أو حال الاستنباط والقياس.
ومن تأمل كتب أئمة التفسير المتقدمين, سواءً المختصرة من غيرها, أو المختصرة في نفسها- بِقِلَّة ألفاظها واختياراتها-, يجدها قائمةً على هذه الأنحاء الأربعة, والتي بِها تتحقق فوائد الاختصار, ويصيب صاحبه غرضه منه, وينتفع به الناس. [6]
ذلك منهج العلماء في الاختصار, وذاك غرضهم منه.
وفي هذا العصر تزامنت كثرة مختصرات التفسير, مع تباعد كثيرٍ من المختصرين عن منهج أعلام سلفهم في ذلك, فأعملوا في كتب السابقين سلخاً ومسخاً وتهذيباً وترتيباً, لم يبقَ معه للأصل لونٌ ولا طعمٌ ولا رائحة, ولست تعرف ممَّا بقي من أطلاله غير اسمه:
لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلُ
¥