تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[أبحاث في الجملة القرآنية من حيث المبنى (4)]

ـ[د. أبو عائشة]ــــــــ[07 Jun 2006, 02:22 ص]ـ

[أبحاث في الجملة القرآنية من حيث المبنى (4)]

ب - التماثل:

تكتسب الألفاظ المشاكلة من المجاورة، تمازجاً في الدلالة يخرجها عن النمط المألوف ويعدل بها عن دلالة المطابقة إلى الناحية الإبداعية، وهذا التمازج لا يتمثل في التكرار المجسم في العبارة، بل أنه يتحقق ذهنياً من خلال تقدير المجاورة في الدلالة وما يستتبع ذلك من تمازجها (1). قال تعالى: (إنهم يكيدون كيداً وأكيدُ كيداً، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) (الطارق: 15 - 17) إن هذه المماثلة أعطت للنص دلالات أخرى مضافة لدلالة المفردة المستخدمة أصلاً في التماثل، وهو أسلوب شائع في القرآن يضفي دلالة القدرة على المجازاة المُستَحَقةُ لفعلهم الأول لذلك مُثِل بين الأفعال لأن العقاب غالباً ما يكون من جنس العمل كما يقال، رغم أن مثل هذه الصفة (الكيد) التي وردت في الآية مما لا يصح أن يُنسب إلى الله تعالى غير أن المقابلة عن طريق التماثل جعلت اللفظ يخرج عن معنى الكيدية إلى معنى المجازاة على الكيد لذلك يقول ابن عثيمين: إن الصفة (صفة الله عز وجل) إذا كانت كمالاً في حالٍ ونقصاً في حالٍ لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق فلا تُثبَتْ له إثباتاً مطلقاً ولا تُنفى عنه نفياً مطلقاً بل لابد من التفصيل فتجوز في الحال التي تكون كمالاً وتمتنع في الحال التي تكون نقصاً وذلك كالمكر والكيد والخداع ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها لأنها حينئذٍ تدلّ على أنّ فاعلها قادرٌ على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشدّ، وتكون نقصاً في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها كقوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (الأنفال: 30) وقوله تعالى: (إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيدا) (الطارق:15 - 16) وقوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) (النساء: 142) وغيرها كثير ولهذا لم يذكر الله تعالى أنه خان من خانوه فقال تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) (الأنفال: 71)، فقال فأمكن منهم ولم يقل (فخانهم) لأن الخيانة خدعة في مقام الإئتمان وهي صفة ذمٍّ مطلقاً (2) وهذا ما يسمى عند البلاغيين بالمشاكلة، والمشاكلة عند الشعراوي أن تأتي بلفظٍ هذا اللفظ يدل على معنى، وهذا المعنى ليس هو عطاء اللفظ لغةً ولكنه جاء بهذا لوقوعه في صحبة غيره فعندما يقول الله عز وجلّ: (والله خيرالماكرين) هل نقول والعياذ بالله ربنا ماكر أم ماذا؟ فإذا قال الله عن نفسه فعلاً فيجب أن نقف عندما يقول ولا نشتق منه اسماً فلا نقول الله الكائد ولا الماكر بل نقف بالحديث عندما قال الله به، لأنه جاء به على طريق المشاكلة، لأن الكيد والمكر تَبييتَ أمورٍ يَظنُّ أنها خافية على من بَيتَ له (3).

والتأمل بالتماثل يفضي بالمتأمل إلى القول بأن التماثل عبارة عن مقابلة من نوعٍ معين، فهو مقابلة قد تتشاكل فيها الألفاظ إلا أن السياق وعن طريق التقابل يعين علاقة التضاد، الأمر الذي يؤكد القصدية في تحقيق المشاكلة في بعض السياقات لفظياً لأقامة تقابل مبني في علاقاته على التضاد كما في قوله تعالى: (ولدينا مزيد) و (هل من مزيد) في سورة (ق: 30،35) فقد اشتركت الجملتان بلفظة (مزيد) مع أن سياقيهما مختلفان تماماً مما يجعل الصورة أشد بروزاً وكأنها (لفظة مزيد) دالةٌ تشير إلى هذه العلاقة التي هي عبارة عن جزء في مقابلة أكبر وعلى الشكل الآتي: قوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفّارٍ عنيد) (ق: 24) يقابله (وأزلفت الجنة للمتقين غيرَ بعيد) (ق: 31) فكل في سياق الأمر (ألقيا) دلّت على الاستهانة بهم فكل من كفر كائناً من كان سيلقى في جهنم، وجيء بـ (في) لتعني الظرفية، فكأن الإلقاء يكون في وسط جهنم وهذا سرّ التعدية بـ (في) دون (إلى) مع أن (ألقى) قد يُعدى بـ (إلى) كما في قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً) (النساء: 94)، يقابل كل هذا (أزلفت) الفعل الماضي الدّال على الاهتمام والتهيئة، تهيئة الجنة للمتقين قبل دخولها، واللام هنا تقابل (في) وهي توحي بالملكية، وكأنهم أي المتقين قد تملكوا الجنة التي هيئت لهم غير بعيد. وقُوبل قوله تعالى: (فألقياه في العذاب الشديد) (ق: 26) بقوله تعالى: (أدخلوها بسلام) (ق: 34) ليصور الفرق بين الحالين، فالفرق كبير بين الأمر بإلقاء الشخص في العذاب الشديد وبين دعوة المتقين للدخول إلى الجنة بسلام، وهذا الأمر بإلقاء الكافر في النار لن يُبدل مما يعني خلوده في النار قال تعالى: (ما يُبدل القول لديَّ .. ) (ق: 29) لذلك قُبل بقوله تعالى: (ذلك يوم الخلود) (ق: 34)، هذه الصور المتقابلة كانت واضحة جداً في قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) (ق:30) وقوله تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) (ق: 35) فالتقابل بين (هل من مزيد) وبين (ولدينا مزيد) جعل صورة التضاد بين الصورتين واضحة جداً عن طريق اللفظة المشتركة بينهما (مزيد)، فجهنم تبحث عن أي زيادة كما يفهم من (من) التبعيضية في السؤال في حين تأتي الصورة المقابلة (ولدينا مزيد) بعد أن أبيح لهم كل ما يشاؤونه ليتكفل الله بعد ذلك بالزيادة في حين طلبت جهنم الزيادة بعد امتلائها

د. عامر مهدي صالح

استاذ البلاغة والنقد في جامعة الأنبار

(1) ينظر: البلاغة والأسلوبية 225.

(2) ينظر: القواعد المثلى 20.

(3) ينظر: المختار 2/ 197 – 200.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير