كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا
إي بلغ جبلين عظيمين، ووجد قبلهما قوماً لا يكادون يفهمون أي لغة غير لغتهم، وكذلك مترجمي ذي القرنين لا يعرفون لغتهم. فلا يكادون يتفاهمون إلا بالإشارات. فهذا يدل على أن لغتهم لم تكن من اللغات الهندو أوربية (التي منها الفارسية) ولا من اللغات السامية (التي منها الآرامية) ولا من اللغات التركية. ولذلك لم يعرفها ذو القرنين ولا أحد ممن كان معه. وهذا الوصف ينطبق على جبال القفقاز حيث نجد هناك إلى اليوم قبائل منعزلة تتحدث لغات مستقلة لا ترتبط بأي مجموعات لغوية أخرى. مما يدل على انعزال تلك القبائل منذ العصر الحجري.
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا
والظاهر أنه عرف أنه لا قدرة له على قتال ياجوج وماجوج لكثرة عددهم، فاختار أن يبني سداً بين الجبلين يمنعهم من الإفساد في الأرض. وأبى أن يأخذ عليه الإجرة، لكن طلب من هؤلاء القوم مساعدته.
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا
فبنى السد من قطع الحديد، حتى إذا انتهى ووصل السد إلى قمتي الجبلين حمّى الحديد بالنار ثم صب عليه النحاس المصهور حتى تلتحم قطع الحديد مع بعضها.
فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
ذلك اليوم يكون بعد خروج عيسى عليه السلام كما في صحيح مسلم.
ومن المستبعد جداً أن يكون هذا السد هو سد الصين، لأنه مبني من حديد ونحاس بين جبلين وليس من حجارة وطين ما بين البحر إلى الصحراء. ومن البعيد كذلك أن يكون السد بين داغستان وأذربيجان عند مدينة داربند (باب الأبواب) كما يذكر أكثر المؤرخون، لأن ذلك السد بني متأخراً في عهد الساسانيين وهو من الجبل إلى البحر. وفوق ذلك فليس من الحديد. أما خبر بعثة الخليفة الواثق لاكتشاف السد، فإن ابن خرداذبة (ت 300هـ) هو أول من رواها عن نفس رئيسها. يقول الآلوسي في روح المعاني (16
42): ثقات المؤرخين على تضعيفه (أي الخبر). و عندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية، كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلاً.
والراجح لدي أن هذا السد هو في فتحة داريال Darial Gorge في جمهورية جورجيا السوفيتية بجبال القفقاز، التي كانت القبائل المتوحشة تغير منها على مناطق جنوب القفقاز و شرق البحر الأسود وغرب بحر قزوين. هذه الفتحة يسميها العرب بوابة آلان. و هذه حقيقة قائمة لكل من أراد أن يراها: جبال شاهقة تمتد من البحر الأسود حتى بحر قزوين التي تمتد لتصل بين البحرين طوال (1200كم). و هي جبال شامخة متجانسة التركيب، إلا من كتل هائلة من الحديد الصافي المخلوط بالنحاس الصافي في سد داريال. تلك هي الثغرة المسدودة التي كان هؤلاء المتوحشون يغيرون منها. أما التغيرات الطبيعية. فلم تنل من السد شيئاً، غير أن جسم الجبال الصخري من جانبي السد، تآكل بفعل عوامل التعرية على مدى هذا الزمن الطويل، و صار هناك فراغ فيما بين الصخور الجبلية و جسم السد الحديدي النحاسي، الذي ظل شامخاً حتى الآن، ولا يستطيع إنسان أن ينقبه أو يعلوه. انظر مفاهيم جغرافية للدكتور عبد العليم خضر (ص 299). ومع هذا الذي ذكرت يظل الأمر كله تخمينات وافتراضات، حتى يثبت شيء صحيح بالدليل.
فإن قيل أين يأجوج ومأجوج اليوم؟ وكيف يحجزهم السد؟ فإن قوماً يشربون بحيرة طبريا لا بد أن يكونوا بمئات الملايين. فكيف يخفى هؤلاء علينا؟ والجواب أنهم قوم أخفاهم الله عنا إلى وقت نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فيظهرهم الله بقدرته تبارك وتعالى.
وقد روى الترمذي عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، مرفوعاً حديثاً فيه أن ياجوج وماجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا. فيعودون إليه كأشد ما كان. حتى إذا بلغت مدتهم، قالوا إن شاء الله فيعودون إليه كما تركوه، فيخرقوه. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفي نسخة ابن كثير ليس فيها التحسين. فالحديث ضعيف عند الترمذي. قال ابن كثير: في رفعه نكارة. ثم ذكر أن كعب الأحبار قد حدث بمثله، ثم قال ابن كثير: وهذا مُتَّجه. ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب. فإنه كثيراً ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فرفعه، والله أعلم. ويؤكد ما قلناه -من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع-، ثم ذكر الحديث الذي رواه البخاري (8
104) و مسلم (2880) عن زينب بنت جحش أم المؤمنين مرفوعاً: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه. وهو محمر وجهه، وهو يقول: "لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا". وحَلَّق. قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".
فلو أنهم كانوا يفتحون أكثر الردم كل يوم، لم يعد لهذا الحديث من معنى. وقد رويت خرافات كثيرة عنهم في كتب التفسير والتاريخ، مثل أنهم من نسل آدم من غير حواء ومن أن آذانهم طوال وأن الواحد يتفيء بأذنه، وغير ذلك من الخرافات السمجة، التي إما ترجع إلى أساطير اليهود أو هي محض خيال من القصاصين. ولذلك أعرضنا عن ذلك، وما ذكرنا إلا الصحيح إن شاء الله. والله الغالب لا رب سواه.
¥