وأشياء أخرى زيادة على ذلك, وكان الله عز وجل قد أذن لاَدم في تزويج بناته من بنيه, وقد حرم ذلك بعد ذلك , وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم عليه السلام, وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة, وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم, وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً, وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين, ثم حرم عليهم ذلك في التوراة, وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم, وهذا هو النسخ بعينه, فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح عليه السلام, في إحلاله بعض ما حرم في التوراة, فما بالهم لم يتبعوه؟ بل كذبوه وخالفوه؟ وكذلك ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين القويم, والصراط المستقيم, وملة أبيه إبراهيم, فما بالهم لا يؤمنون؟ ولهذا قال تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} أي كان حلاً لهم, جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل, ثم قال تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} فإنها ناطقة بما قلناه {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون} أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً, وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعو إلى الله بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرناه {فأولئك هم الظالمون} ثم قال تعالى: {قل صدق الله} أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن, {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية, وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم, كما قال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم * ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وقال تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}.
ثم وجدت في تفسير ابن جزيء وابن عاشور تفسيرا أوضح مما سبق وملخص ما ذكروه فيها أن يقال في تفسير الآية:
انتم أيها اليهود تزعمون أنكم على ملة إبراهيم وان جميع ما تفعلونه هو من ملة إبراهيم عليه السلام وأن التوراة لم تنسخ شيئا وأن ما فيها من التحليل والتحريم كان موجودا على عهد إبراهيم فأنزل الله هذه الآية لبين لهم أن هذا غير صحيح فإن الطعام كان حلالا كله ثم حرم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبانها ثم نزلت التوراة بتحريم أشياء أخرى فثبت أن جميع ما تحلونه وتحرمونه ليس كله كان موجودا على عهد إبراهيم وأن النسخ الذي لا تؤمنون به قد جاءت به التوراة التي تزعمون أنكم مؤمنون بها
وهذا التفسير يؤيده أن اليهود كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم كما قال الله تعالى (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) ويؤيد أيضا ما ذكره ابن الجوزي في زاد المسير أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا على ملة إبراهيم» فقالت اليهود: كيف و أنت تأكل لحوم الإبل؟ وتشرب ألبانها؟ فقال: «كان ذلك حلا لإبراهيم». فقالوا كل شيء نحرمه نحن، فانه كان محرما على نوح و إبراهيم حتى انتهى إلينا. فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم. (وإن كان الأثر عن تابعي)
وعلى هذا القول تتضح الآية سواء قلنا ان التوراة جاءت بتحريم ما حرم إسرائيل على نفسه او لم تأت
يوضحه نص كلام ابن عاشور رحمه الله حيث قال:
هذا يرتبط بالآي السابقة في قوله تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا" وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب.
وهذه حجة جزئية بعد الحجج الأصلية على أن دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإن الحنيفية لم يكن ما حرم من الطعام بنص التوراة محرما فيها، ولذلك كان بنوا إسرائيل قبل التوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرما عليهم ما حرم من الطعام إلا طعاما حرمه يعقوب على نفسه. والحجة ظاهرة ويدل لهذا الارتباط قوله في آخرها "قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا".
هذا ما تبين لي أرجو من المشايخ الكرام الإفادة