ـ[د. أبو عائشة]ــــــــ[05 Jun 2006, 02:09 ص]ـ
الجملة القرآنية من حيث المبنى (2)
2. مغايرة المصدر لمادة فعله:
من أساليب العرب الإتيان بفعل ثم لا يأتون بمصدره بل يأتون بمصدر فعلٍ آخر يلاقيه في الاشتقاق، وبذلك يجرونه على غير فعله لمّا كان في معناه ((1)) من ذلك قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا) (المزمل: 8) فهذا على فعل ليس من لفظ الفعل الظاهر ... فحُمِلَ المصدر على فعل دلّ أول الكلام عليه ((2))، ذلك أنّ المصدر من (تبتل) هو (التبتل) لأنّ مصدر (تفعّل) يكون على (التفعل)، وامّا (التبتيل) فهو مصدر (بتّل) لا (تبتل) لأنّ (التفعيل) مصدر (فعّل) ((3))، فكان القياس اللغوي يقتضي أن يكون التعبير (وتبتل إليه تبتلا) لكن الأسلوب القرآني عدل عن (تبتلا) إلى (تبتيلا) بسبب من رعاية الفاصلة كما قيل ((4))، إلاّ أنّ الدكتور فاضل السامرائي نبّه إلى السبب الدلالي لهذا العدول مستفيدا من ملاحظة الإمام أبن القيم الذي جعل السرّ في هذا العدول أن في هذا العدول إيذانا بالتدرّج والتكلّف والتعمّل والتكثّر والمبالغة، فأتى بالفعل الدال على أحدهما وبالمصدر الدال على الآخر، فكأنّه قيل: بتّل نفسك إلى الله تبتيلا، وتبتل إليه تبتلا، ففهم المعنيان من الفعل ومصدره ((5)) لأنّ (تبتل) على وزن (تفعّل)، وهذا الوزن يفيد التدرج والتكلّف مثل تدرّج وتحسّس وتجسّس وتبصّر وتمشّى .... ، ففي هذه الأفعال من التدرج والإعادة ما ليس في (بصر) و (مشى) مثلا،أمّا (فعّل) فيفيد التكثير والمبالغة، وذلك نحو (كسر) و (كسّر) فإنّ في الأخيرة المضعفة من المبالغة والتكثير ما ليس في (كسر) الثلاثي، فقولك (كسّرت القلم) يفيد أنّك جعلته كسراً بخلاف (كسرت القلم) فهو يفيد أنّك كسرته مرّة واحدة ... فالله سبحانه جاء بالفعل لمعنى التدرج ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر هو التكثير، وجمع المعنين في عبارة واحدة موجزة، ولو جاء بمصدر الفعل (تبتل) فقال (وتبتل إليه تبتلا) لم يفد غير التدرج، وكذلك لو قال (وبتّل نفسك إليه تبتيلا) لم يفد غير التكثير، ولإرادة المعنين جئ بالفعل من صيغة والمصدر من صيغة أخرى وجمعهما، فهو بدلا من أن يقول (وتبتل إليه تبتلا وبتبل نفسك أليه تبتيلا)، جاء بالفعل لمعنى ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر، ووضعهما وضعا فنّيا فكسب المعنين في آن واحد ((6))، ومن كلام ابن القيم والدكتور فاضل نستطيع أن نفهم عدم العدول في قوله تعالى: (وذللت قطوفها تذليلا) (الإنسان: 14) فقد جاء بالمصدر هنا من مادة فعله الدال على التكثير والمبالغة لعدم وجود داع لجلب مصدر يدل بفعله على معنى التدرج والتكلف لأنّ السياق جاء بمعنى التنعيم والإكرام لأهل الجنّة، والذي يناسبه ما يدل على المبالغة لا ما يدل على التدرج، وهذا بابٌ شريف من أبواب التوسع في المعنى، كثير في القرآن وهو من حسن الاختصار والإيجاز كما يقول ابن القيم ((7))، وهذا مدار البلاغة العربية وقال تعالى: (والله انبتكم من الأرض نباتاً) (نوح: 67). فـ (نباتا) مصدر غير (أنبتكم) د ُُلَّ بهذا المصدر على معنى الطواعية والإذعان لأن فعله يدلُّ على المطاوعة فكأن المعنى (أنبتكم فنبتم نباتا) وهو رأي ابن يعيش ((8))، أي كما أنبت الله الشجر ((9))، أو نُصبَ بأنبتكم لتضمنه معنى (نبتم) (فهو مصدر محمول على المعنى لأن معنى (أنبتكم) جعلكم تنبتون نباتا، قاله الخليل والزجاج وقيل أي أنبت لكم من الأرض النبات فـ (نباتاً) على هذا نصبٌ على المصدر الصريح والأول أظهر) ((10))، واستعير الإنبات للإنشاء ليكون أدلَّ على الحدوث ((11))، وقيل (قوله نباتاً حال لا مصدر ونبه بذلك على أن الإنسان هو وجه نبات من حيث أن بدأه ونشأهُ من التراب وأنه ينمو نموه وإن كان له وصفٌ زائد على النبات) ((12)).
د. عامر مهدي صالح
أستاذ البلاغة والنقد في كلية التربية
جامعةالأنبار
(1) ينظر: الكتاب 2/ 244، وشرح المفصل 1/ 111.
(2) ينظر: الخصائص 2/ 309.
(3) ينظر: التعبير القرآني 34، والتفسير القيم 501.
(4) ينظر: البيضاوي والشهاب، ينظر: حاشية الشهاب 8/ 266، وإبراهيم السامرائي من بديع لغة التنزيل 300.
(5) ينظر: التفسير القيم 501 – 502.
(6) ينظر: التعبير القرآني 34 – 35 وبهذا نُدرك بُعد ما قيل من أن هذا كان مراعاة لحق الفواصل، ينظر: تفسير القرطبي 19/ 44.
(7) ينظر: التفسير القيم 502.
(8) ينظر: شرح المفصل 1/ 112.
(9) ينظر: العين 8/ 130.
(10) تفسير القرطبي 18/ 305.
(11) ينظر: الكشاف 4/ 163، غرائب القرآن 29/ 52.
(12) المفردات 731.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[05 Jun 2006, 10:43 م]ـ
جزاكم الله خيراً أبا عائشة على هذه اللطائف القرآنية الدقيقة، ونتمنى المواصلة في إفادتنا بأمثالها ونظائرها، مع علمنا بما أنتم فيه في العراق من العناء. فرج الله كربتكم، ونصركم على عدونا وعدوكم.