على الإحاطة، وهي تنقسم إلى قسمين زمانية ومكانية، فأحاطت أوليتهِ بالقبل وأحاطت آخريته بالبعد وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكلِ ظاهرٍ وباطن فما من ظاهرٍ إلا والله فوقه وما من باطنٍ إلا والله دونه فالأول قِدمُهُ والآخر بقاؤه ودوامه، والظاهر علوه وعظمته والباطن قربه ودنوه .... ) ((8))، ولأجل إرادة هذه المعاني على التقابل في ذاتٍ واحدةٍ عُطِفَتْ، لأن الظاهر في الصفات ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها، وأن الصفة تجري مجرى الموصوف، لذلك قلما تعطف صفات الله تعالى بعضها على بعض كما يقول ابن الزملكاني وذكر: أما الآية في سورة الحديد فلأن الأسماء فيها متضادة المعاني في أصل موضوعها، فعُطفت لرفع التوهم عمن يستبعد ذلك في ذاتٍ واحدة لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهراً وباطناً من وجهٍ واحدٍ، فكان العطف هنا أحسن، فإذا قُصدَ التناقض في الأحوال قيل (هذا قائمٌ قاعدٌ) بغير واو بخلاف ما تقدم لأن تلك الصفات في حكم الصفة الواحدة لانتفاء المضادة بينها ((9))، وأغلب سورة الحديد بُني على المقابلة كما في قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) (الحديد: 4) وعلى الشكل الآتي:
دخول ـــــــــــــــ يعلمُ ما يلج ---- تماثل ---- وما ينزل ـــــــ نزول
دخول ــــــــــــــــ في ---- تضاد --- من ـــــــــــــــــــــ نزول
دخول ـــــــــــ الأرض ---- تضاد ---- السماء ـــــ نزول
خروج ـــــــــــ وما يخرج ---- تماثل ---- وما يعرج ــــــــ صعود
خروج ـــــــــــ منها ---- تضاد ---- فيها ـــــــــــ صعود
ومن ذلك قوله تعالى في السورة نفسها: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) (الحديد: 6) وفي هذا تصوير في غاية الدقة؛ إذ لا يصح أي تعبير غير التقابل في رسم هذه الصورة إذ إن النهار والليل موجودان على الأرض دائماً في الوقت نفسه، وغروب الشمس على جزءٍ منها لا يعني غير شروقها على جزءٍ آخر، فدخول الليل في النهار يقابله قطعاً دخول النهار في الليل في الجزء المقابل ولولا هذه المقابلة لانعدمت هذه الدقة في الوصف، يؤكد هذا قوله تعالى: (وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون) (الأعراف: 4)، وقوله تعالى: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون) (الأعراف 97 – 98) ذلك أن العذاب حين يأتي على الناس جميعاً يكون بعضهم في جزء من الأرض والبعض في الجزء الآخر؛ فيكون بعضهم في نهارٍ وبعضهم في ليلٍ.
ولعل من أهم الميزات اللغوية في المقابلة أن البنيتين المتقابلتين غالباً ما تستخدم النمط البنائي ذاته لحمل القارئ على التنبه لها كما في المقابلة الآتية من سورة الحديد نفسها (7 – 11):
آمنوا بالله فالذين آمنوا ... وما لكم لا تؤمنون ....
وأنفقوا .... وأنفقوا ...... وما لكم ألا تنفقوا ......
وقد يؤتى في التقابل بمغايرة أسلوبية لإحداث نوعٍ من المفارقة تُنبه إلى اختلاف بين المشهدين المصورين كما في المقابلة الآتية في سورة الحديد 10:
لا يستوي منكم ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ أولئك أعظم درجة
من أنفق ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ من الذين أنفقوا
من قبل الفتح ـــــــــــــــــــــ تضاد ـــــــــــــــــــــ من بَعدُ
وقاتل .. ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ وقاتلوا
((إفراد)) ........................................... ((جمع))
فيُلاحظ أن الحديث عمن أنفق بعد الفتح وقاتل تحوَّل إلى الإخبار عن الجماعة في حين كان الحديث عنهم قبل الفتح بصيغة الإفراد في الوقت الذي كانت الأفضلية والخيرية لمن فعل ذلك قبل الفتح والسبب في ذلك - والله أعلم - أن الحاجة إلى مثل هؤلاء كانت شديدة قبل الفتح لأن الاختبار كان أكبر ولأن المسلمين كانوا قلةً، فناسب ذلك أن يؤتى بالإفراد في الإخبار عنهم وعكسه فيما بعد حين قويَ الإسلام ودخله الناس أفواجاً، بل لعل هذه المغايرة الأسلوبية كانت إشارةً إلى ذلك.
والمقابلة قد تصبح موجهاً إلى الدلالات الهامشية للفظة على وجه الاستدعاء كما في قوله تعالى: (ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزّل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون، إعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون) (الحديد: 16 - 17) فالتقابل هنا على الشكل الآتي:
تخشع قلوبهم ـــــــــــــــــــــ يحيي الأرض ــــــــــــــــــــ الإيمان = الحياة
فقست قلوبهم ـــــــــــــــــــــ موتها ـــــــــــــــــــــ الكفر = الموت
إن المقابلة هنا تمثل موجهاً لاستدعاء دلالات المفردة الهامشية، ويعين المطلب السياقي الذي وضعت له هذه المفردة، والنظر إلى المفردة من غير فهمٍ لعلاقتها التقابلية سيبتر المعنى الدقيق لها والذي اكتسبته من التقابل، ويضعها وعلى السواء مع أي مفردةٍ أخرى مرادفة لها، فقد فسِّرت (تخشع) بـ (تذلّ وتلين) ((10))، وكيف يمكن أن يقابل الذل معنى الحياة ليكون مشيراً إلى الإيمان على وجه الاستدعاء من التقابل، فهذه المعاني التي ذكرها القرطبي لا تصلح أن تكون بديلاً لهذه اللفظة لأنها ببساطة غير صالحة لأن تأخذ موضعها التقابلي الذي جعل من (تخشع) متضمنة لمعنى الحياة المعاكسة للموت والله أعلم.
د. عامر مهدي صالح
استاذ البلاغة والنقد في جامعة الأنبار
(1) ينظر: التفسير البياني 1/ 25 – 26.
(2) ينظر: تفسير الرازي 30/ 420.
(3) التبيان في أقسام القرآن 72.
(4) ينظر: الأعمال الكاملة لمحمد عبده 5/ 95.
(5) ينظر: التفسير البياني 1/ 26.
(6) ينظر: التقابل والتماثل في القرآن الكريم 286.
(7) اشتقاق أسماء الله الحسنى 232.
(8) مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية 40، وينظر: شرح العقيدة الواسطية 29.
(9) ينظر: التبيان في علم البيان 129 – 130.
(10) تفسير القرطبي 17/ 248.