ثم له أن يسأل: إذا كان الضمير عائدًا للأشياء كلها فلم جاء بصيغة جمع المذكر العاقل (عرضهم) ولم جاءت الإشارة إليها بـ (هؤلاء) الذي وضع للإشارة إلى العقلاء؟
والجواب أن ذلك لأحد أمرين: أولهما أن هذه الأشياء كان منها العاقل وغير العاقل فغلب العاقل على غير العاقل كقوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} النور45 وهذا أمر شائع في العربية.
بارك الله فيكم _شيخنا الكريم_، وقفتُ على مثل ما تفضلتم به عند ابن كثير والقرطبي وابن جرير بل وحتى عند الجلاليْن (ولا أغفل ما أخذ عليهما من انتهاج سبيل الأشاعرة في تأويل الصفات، واعتمادهما على بعض الإسرائيليات في تفسيرهما _رحمهما الله_)، وذلك على اختلاف بينهم جميعا، ففي حين يذهب ابن جرير رحمه الله إلى أن المراد من الأسماء أسماء الملائكة وذرية آدم فقط؛ لأنه قال: (ثم عرضهم) عبارة عما يعقل، يذهب ابن كثير رحمه الله إلى أن رأي ابن جرير ليس بملزم ويرجّح الرأي القائل بأن الأسماء هي أسماء كل شيءٍ مما كان من شأن آدم أن يعلمه في حياته، مستدلا على ذلك بالآية الكريمة التي وردتْ في سياق حديثكم _أستاذي الكريم_بارك الله فيك_.
على أن القرطبي رحمه الله يرى أن المعنيّ بـ (الأسماء) هم ذرية آدم فقط.
ولكل منهم رأيه الذي له وجاهته ولا ريب، رحمهم الله جميعا.
والثاني أن الله تبارك وتعالى عندما سمّى هذه الأشياء بأسماء وعلمها آدم اكتسبت هذه الأشياء قدرًا بهذه التسمية، وصار لها شان، فاستحقت – وإن كانت لا تعقل – أن تعامل معاملة العقلاء، فبهذه التسمية الكريمة من الله تبارك وتعالى وبهذا العلم الذي آتاه الله آدم بهذه الأسماء ستكون لهذه الأشياء قيمة كبيرة، فستكون هذه الأسماء الأساس الذي تبني عليه العلوم والمعارف كلها ولولا عِلْمُ الأسماء لما كان هناك أي علم من العلوم.
ثم إن كل شيء_ وإن لم يكن عاقلاً كبني آدم_ آتاه الله سبحانه من الإدراك ما يعرف به خالقه ويسبحه {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} الإسراء44
أفلا يستحق من يسبح بحمد الله أن يعامل معاملة العقلاء فيرجع الضمير إليه كما يرجع إلى العقلاء؟
فالله تبارك وتعالى علّم آدم أسماء كل الأشياء الحسية منها والمعنوية كما علمه أسماء الملائكة والأنبياء عليهم السلام، لكل ذلك رجع الضمير إليهم بـ (هم) فكل شيء بعد التسمية صار له ذكر مرفوع ومقام مشهود ولكل مخلوق خصائص ووظائف، ولكل خصيصة اسم ولكل وظيفة اسم ولكل معنى من المعاني اسم، والله علَّم آدم كل هذه الأسماء، وأصحاب هذه الأسماء يستحقون أن يرجع إليهم الضمير والإشارة كما يرجع إلى العقلاء الذين كرَّمهم الله بالإدراك. والله أعلم.
تلك نكتة دقيقة عرفتها على يديكم بارك الله في علمكم ونفع بكم!
وإنني إذ أسعد بمِنْحَتِكم الجليلة هذه، أترك التعليق عليها لمن فاقني علمًا ودراية _وكل أعضاء الفصيح كذلك_ ليدلي بدلوه ويبدي رأيه في ما فتح الله عليكم به.
شكر الله لكم وحقق مبتغاكم وجزاكم خير الجزاء.
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[05 - 04 - 2006, 04:19 م]ـ
الأستاذ الجليل الدكتور أبا محمد،
أدام الله توفيقه في كل قول وفعل، وفي كل رأي ونظر.
بداية أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يفرّج همّك ويرفع قدرك، وأن يعطف قلب المسؤول عليك، ويلهمه الإحسان إليك، وأن يجعل ما تمرّون به من ظروف شديدة قاسية في ميزان حسناتك يوم لقائه.
أما بخصوص الأسماء التي علّمها الله تعالى آدم عليه السلام، فاسمح لي أستاذي الكريم - حفظ الله روحك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كل خير بحالك - أن أقول فيها كلمتين:
الأولى: قولكم الكريم: "وإن كان مثل هذه الآراء الشاذة لا يستحق الرد والمناقشة، فالزمن كفيل بوأدها" كلام صحيح لا غبار عليه، ولو أنني لم أرَ في القوم مَن يأخذ بأقوال ذلك المقدسي ويشيعها بين الناس، لضربت بها عرض الحائط ولما أعرتها انتباهاً.
فلا يخفى على أحد أن هذا المسكين إنما أتعب نفسه ونَصِبَ وحامَ وغنّى، حتى أنه ظنّ ما لا يكون ولا يمكن ولا يُستطاع. وكان يكفيه تمادياً في هذا الرأي أنه ليس له فيه من أهل العلم موافق، ولا عليه مطابق ..
والثانية: أن ما جاء في توجيهكم - أعلى الله قولكم - للأسماء التي علّمها الله تعالى آدم عليه السلام، لهو الحقّ المبين بإذن ربّ العالمين. ويؤيّده في الدلالة ما في الصحيحين من حديث أنس وغيره في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ... الحديث". وكل هذا صريح بيّن في أن الله تعالى علّم آدم أسماء كل شيء - والله أعلم بمراده.
وفي الختام لكم مني دعوات صادقات بأن يحييكم الله لأهل العلم، ويحيي بكم طالبيه، وأن يجعل أحوالكم كلها منظومة بالصلاح، راجعة إلى حميد العاقبة، متعلقة بشوارد السرور.
¥