نحن نعلم أن الأخفش الأوسط (-215هـ) فتح باب الخلاف على أستاذه سيبويه، وأن هذا الخلاف تمخض عن مدرستي البصرة والكوفة، ثم نشأت مدارس أخرى. ونعلم أن هذه المدارس استقطبت النحاة. ونعلم أن جدلاً دار حول أصول النحو، مثل الاحتجاج والقياس ومصطلحات النحو، دون أن يعني هذا خفوت الأصوات الفردية والخلافات الجانبية ضمن كل مدرسة، فإن الأسباب التي أدت إلى ظهور الخلافات، وهي طبيعة اللغة العربية نفسها، وطبيعة العلل التي تتحكم في العلاقات اللغوية، والدلالات التي تحملها الألفاظ، وطبيعة البحث العلمي (16)، هذه الأسباب إلى جانب أسباب أخرى سنتطرق إليها فيما بعد –ظلت نبعاً لا ينضب لتعدد الآراء دون أن تفلح مدرسة الفارسي في الخروج من مأزق الخلاف رغم تأثيراتها العميقة:
أ-فلابد أن كلاً من عمالقة النحو العربي كان في ذهنه شيء جديد يريد تقديمه، ولاسيما أن معظمهم كان من المعتزلة المؤمنين أعمق إيمان بحرية العقل وسلطانه. فالفرّاء بعد الكسائي وطد أركان مدرسة الكوفة. والرماني (-384هـ) اتهم بنزعته المنطقية. وأبو علي الفارسي صاحب مدرسة مستقلة، هو وتليمذه ابن جني. والزمخشري عاد إلى كتاب سيبويه واختصره في المفصل. وابن الحاجب نحوُه "نحو الفقهاء". وابن مالك توسع في الاستشهاد بالحديث النبوي. وابن هشام صاحب آراء مستقلة.
ب-وارتاد بعضهم ساحات جديدة في التصنيف:
1 - فصنف الزجاجي (-337هـ) كتاب اللامات. والرماني (-384هـ) "معاني الحروف" والهروي (-415هـ) "الأزهية في علم الحروف" وهي كما هو واضح تجميع للأدوات في مؤلفات مستقلة.
2 - وظهرت كتب إعراب القرآن الكريم بدءاً من معاني القرآن للأخفش، مروراً بمعاني القرآن للفراء، حتى اضطر ابن هشام إلى تقديم شكل جديد يغني عن كتب الأعاريب التي كثرت وطالت، فكان "مغني الليبب" دون أن يوقف هذا المغني سيل كتب الأعاريب.
3 - وظهرت كتب الأمالي، للزجاج، والمرتضى (-436هـ) وابن الشجري (-542هـ) وابن الحاجب، وغيرهم. وتبحث كتب الأمالي شتاتاً من الموضوعات يتراوح بين جواب لسائل، وإعراب آية، وشرح بيت مشكل.
4 - وعني بعض النحاة بشرح الشواهد النحوية، وهو عمل جليل يخفف العبء عن متون النحو، ويسمح للمؤلف أن يستمر في عرض مادته دون الانصراف إلى الشواهد، في زمن لم تكن الحواشي فيه معروفة. وللنحاس (-338هـ) وابن السيرافي (-385هـ) والأعلم الشنتمري (-476هـ) شروح لأبيات سيبويه. وقد يشرح النحوي نفسه شواهده كما فعل ابن هشام بشواهد المغني، أو يشرح شواهد غيره. كما فعل ابن هشام نفسه بشواهد ابن الناظم بدر الدين بن مالك (-686هـ). وبلغ من عظمة شارح أبيات الرضي، وهو عبد القادر البغدادي (-1093هـ) أن حمل مؤلفه عنوان "خزانة الأدب" عن جدارة، فيها عشرات المقطعات والقصائد، وتراجم لعشرات الشعراء، ومعرض لآراء النحاة. وكذلك شرحه لأبيات مغني اللبيب.
5 - وألف بعضهم في محاور خاصة مثل كتب الأحاجي النحوية، وكتاب "الاقتراح" للسيوطي.
هذا فيما يخص مناجي التأليف النحوي، أما اتهام أحمد أمين تراث العرب النحوي بأنه تكرار لكتاب سيبويه فإننا نبدي عليه التحفظات التالية:
1 - كان من مظاهر ارتقاء العقل العربي بعد سيبويه الميل إلى التعليل. وإذا كان القياس أساسه الفقه والنحو، فالعلة أساس القياس، والقياس "هو حمل غير المنقول على المنقول في حكم لعلة جامعة" (17) "ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول، وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره، فإذا سمعت "قام زيد" أجزت: ظرف بشرٌ وكرُم خالدٌ" (18).
جهد النحاة العرب لوضع القاعدة النحوية على أساس علِّيّ. وكانت العلل هشة بادئ الأمر، يطعن الطاعن فيها بسهولة، فلما كان ابن جني عمل للتخلص مما يسمى بتخصيص العلل، أي من إمكان نقضها لعدم الاحتياط في وصفها، مثل قولهم في علة قلب الواو والياء ألفاً: إن الواو والياء متى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين" وهي قاعدة منقوضة بمثل: (غَزَوَا)، وبمثل (عَوِر)، فسدّ ابن جني كل خلل في القاعدة، وجعل قاعدته شاملة مطردة لا يطعنها طاعن من جهة، وتخاطب العقل قبل الذاكرة من جهة أخرى، فجعلها كما يلي "إنهما متى تحركتا حركة لازمة، وانفتح ما قبلهما، وعري الموضع من اللبس، أو أن يكون في معنى ما لابد من صحة الواو والياء فيه، أو أن يخرج على الصحة منبهة على أصل
¥