لأنه لم يتصور إطلاق الإرسال على هذه الصور مع نفي التدليس عنها، في آنٍ واحدٍ، فذكر بأن الخطيب لم يرد بقوله: (أو لم يلقه) في قوله (عمن لم يعاصره أو لم يلقه) إثبات المعاصرة، وإنما أراد نفيها، وذلك لأنه أراد رواية الراوي عمن عاصره معاصرة هي وعدم المعاصرة سواء، فهي عدم معاصرة حكماً ومجازاً.
ثم استدل الشريف على أن المراد بهذه اللفظة نفيَ المعاصرة لا إثباتها ببعض الأمثلة التي ساقها الخطيب للصورة الأولى، فإن من الأمثلة ما تحققت فيه معاصرةٌ ما، مع أن الخطيب يقول بعد ذلك: "فهذه رواياتٌ ممن سمينا عمن لم يعاصروه" فجعل الشريف وجود معاصرة ولو كانت قليلة مع نفي الخطيب لها دليل على أنه أراد ببعض الأمثلة عدم المعاصرة حقيقة وعلى ذلك يتنزل قوله (رواية الراوي عمن لم يعاصره) وأراد بالبعض الآخر من الأمثلة عدم المعاصرة حكماً، وعلى ذلك يتنزل قوله (أو لم يلقه).
واستدل أيضاً بأن الصورة الأخيرة، وهي رواية المعاصر الملاقي هي صورة التدليس المتفق عليه، فلا يمكن أن يكون مقصوداً بكلام الخطيب.
وإنما ألجأه لهذا التأويل خشية أن يكون في كلام الخطيب دليل على قول من يفرق بين التدليس والإرسال الخفي وهو ابن حجر بجعل الأول مختصاً برواية المعاصر الملاقي وجعل الثاني مختصاً برواية المعاصر غير الملاقي، والحال أنه قد ثبت عن أهل العلم تسمية الصورتين تدليساً.
وبما أن في إطلاق الخطيب اسم الإرسال على تينك الصورتين معارضة لإطلاقه عليهما اسم التدليس، لعدم وجود فرق بينهما حينئذٍ لزم عنده التأويل، ولما كان إطلاق اسم التدليس عليهما عند الشريف أمراً مقطوعاً به كان تأويل كلام الخطيب المعارض لذلك والمقتضي إطلاق اسم الإرسال عليهما أمراً محتماً.
ولعمري لئن كان إطلاق اسم التدليس على رواية الملاقي وغير الملاقي أمراً مقطوعاً به، فليس إطلاق الإرسال عليهما بدون ذلك، وليس تأويل أحد الإطلاقين بأولى من تأويل الآخر، لأن إمكان تأويل قول الخطيب في المدلس بمثابة إمكان تأويل قوله في المرسل.
فكما أمكن عند الشريف تأويل قول الخطيب في المرسل (عمن لم يعاصره أو لم يلقه) بأن المراد من الصورتين صورة واحدة وهي عدم المعاصرة، حقيقة أو حكماً، فيكون معنى (لم يعاصره) أي لم يعاصره حقيقة، ومعنى (أو لم يلقه) أي لم يعاصره حكماً، فليمكن تأويل قول الخطيب في المدلس (رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه أو لقيه) بأن المراد بالصورتين صورة واحدة وهي اللقاء ويكون معنى (عاصره ولم يلقه) أي حكماً ومجازاً، أي أن الراوي لقي شيخه لقاء هو وعدم اللقاء سواء، ومعنى (أو لقيه) أي حقيقة، ومجرد اللقاء ولو حكماً في التدليس كافٍ في مفارقته للإرسال على قول من يفرق بينهما على ذلك الوجه.
ومع عدم قيام المقتضي لذلك التأويل المتقدم عن الشريف العوني - حفظه الله - لتلك اللفظة، لم يكن تأويله صحيحاً، لأن التأويل الصحيح هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده [19]، والشريف قد حمل اللفظ على ما لا يحتمله أصلاً، ثم لم يأت على ذلك الحمل بدليل صحيح، وإنما قلت بأنه حمل اللفظ - أعني قول الخطيب (أو لم يلقه) - على ما لا يحتمله لما يلي:
أ- أن الخطيب قد ذكر ذلك القول في صدد تحرير الكلام عن المرسل، إذ بوب على ذلك الكلام بقوله: "باب الكلام في إرسال الحديث، ومعناه، وهل يجب العمل بالمرسل، أم لا"، وليس يتناسب مع إرادة تحرير الكلام أن يورد لفظة صريحة أو ظاهرة في معنى عند أهل الاصطلاح في مثل ذلك السياق ويكون مراده منها غير ما هو معروف.
ب- أنه لو لم يصرح الخطيب بمراده من هذه اللفظة لكان حملها على غير ما يعرفه أهل الاصطلاح منها على سبيل التأويل تأويلاً فاسداً، فكيف وقد صرح الخطيب بمراده منها على ما يعرفه أهل الاصطلاح، بقوله (فهذه كلها روايات ممن سمينا عمن لم يعاصروه، وأما رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه)، وقوله أيضاً (وكذلك الحكم فيمن أرسل حديثاً عن شيخ لقيه إلا أنه لم يسمع ذلك الحديث منه وسمع ما عداه).
¥