ذهب الحافظ ابن حجر في النكت [3] إلى أن كلام الخطيب هذا يعزز قول ابن القطان باشتراط العلم باللقاء في مسمى التدليس، ونقل جملة من كلام الخطيب وهي من قوله: (التدليس ... متضمن للإرسال) إلى قوله (لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه) فكأن الحافظ ابن حجر قد فهم من كلام الخطيب أنه يفرق بين التدليس والإرسال الخفي، وهذا صحيح، إلا أن الحافظ ظن أن ذلك التفريق تفريقٌ بين التدليس والإرسال الخفي بسبب اختلافهما من حيث الصور، ومن ثم جعل التدليس مختصاً بالمعاصرة واللقاء والإرسال الخفي مختصاً بالمعاصرة مع عدم اللقاء.
وهذا الذي ذهب إليه الحافظ لا يسعفه فيه كلام الخطيب، لأمور؛
1 - الأمر الأول: أن الخطيب قد أدخل الصورتين، وهما رواية المعاصر الملاقي والمعاصر غير الملاقي في مسمى التدليس والإرسال في آن واحد، فالقول بأن التفريق بينهما سببه اختلاف الصور ليس هو مقتضى كلام الخطيب.
2 - الأمر الثاني: أن عبارة الخطيب ههنا تشمل تدليس الملاقي وغير الملاقي، لأنه أتى بعبارة غير مقيدة بالسماع حيث قال: (الضرب الأول: تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه) فلم يقل (ممن سمع منه) وإنما قال (ممن دلسه عنه) أي سواء سمع منه أم لا.
3 - الأمر الثالث: أن الخطيب نص صراحة على أن بيان الراوي بأنه لم يسمع ذلك الحديث ممن روى عنه يجعله مرسلاً لا مدلساً، فجعل الفارق في هذه الحالة هو بيان الراوي وليست الصور نفسها حيث قال (ولو بين أنه لم يسمعه من الشيخ الذي دلسه عنه، فكشف ذلك لصار ببيانه مرسلاً للحديث، غير مدلس فيه).
4 - الأمر الرابع: أن الخطيب نص على كون التدليس يتضمن الإرسال ولا عكس، وهذا يدل على أن بينهما عموم وخصوص، فالتدليس أخص من الإرسال والإرسال أعم، وتخصيص الحافظ ابن حجر التدليس بصورة معينة والإرسال بصورة معينة أخرى يجعلهما خاصين فليس واحد منهما بأعم من الآخر، ومن ثم فإن مقتضى قول الحافظ أن التدليس لا يتضمن الإرسال، وهو خلاف المراد من قول الخطيب.
وعليه فما ذهب إليه الحافظ من أن قول الخطيب في التدليس يؤيد ما قاله ابن القطان من أن الفرق بين التدليس والإرسال مرده إلى الصور وهي اختصاص التدليس باللقاء والإرسال بعدمه ليس بصواب والله تعالى أعلم.
تفسير الشريف العوني لكلام الخطيب
وذهب الشريف حاتم العوني [4] إلى أن الخطيب يفرق في كلامه هذا بين التدليس والإرسال الجلي وليس تفريقه هنا بين التدليس والإرسال الخفي كما يظنه الحافظ ابن حجر، واستدل الشريف على ذلك بأمور؛
1 - أن الإرسال - على فرض وجود مصطلح الإرسال الخفي - إذا أطلق فالمراد منه الإرسال الظاهر الجلي، فالذي ينبغي هو حمل الإرسال في كلام الخطيب عليه.
2 - أن صورة رواية المعاصر عمن لم يسمع منه قد صرح الخطيب بكونها تدليساً في تعريف التدليس، والخطيب يفارق بين التدليس وإرسال ما، وهذا الإرسال هو الإرسال الظاهر وإلا لكان الخطيب يفارق بين التدليس والتدليس.
3 - أن الفارق عند الخطيب هو الإيهام وهو موجود في رواية المعاصر عمن لم يلقه، وليس موجوداً في الرواية مع عدم المعاصرة وعليه تكون الأخيرة هي مقصود الخطيب.
4 - أن الخطيب بين أنه يريد المفارقة بين التدليس و (رواية الراوي عمن لم يعاصره) عندما قال: (لأن الإرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعاً ممن لم يسمع منه وملاقياً لمن لم يلقه) أي لعدم وجود المعاصرة.
5 - أن الخطيب نص على أن الإرسال الذي يفرق بينه وبين التدليس لم يذمه العلماء، ورواية المعاصر عمن لم يلقه مذمومة فليست هي المعنية.
هذا هو ما ذهب إليه الشريف العوني من معنى كلام الخطيب، وهذه هي أدلته، والحقيقة أن ما ذهب إليه الشريف لا يسعفه فيه كلام الخطيب هنا لأمور؛
1 - الأمر الأول: أن حمل الإرسال في كلام الخطيب هنا على الظاهر الجلي الذي يختص بصورة معينة فقط يفقد الكلام أهميته، لأن المفارقة بين التدليس والإرسال الجلي معلوم لكل أحد، بحيث لا يقتضي ذلك كل هذا العناء من الخطيب لبيان الفرق بينهما.
¥