تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والأدلة كما قدمت كثيرة جدّاً، لكني أقتصر على ما سقت منها، تنبيها بما ذكرت على ما لم أذكر.

الأمر الرابع

أَيَهُون على الأمّة هذا العدد الكبير من أئمة الإسلام الذين قرروا -منذ زمن القرون المفضلة- أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وأنكروا ما سواه من الأقوال؟

علماء في أزمنة متعددة وأمكنة متفرقة، ساق أقوالهم اللالكائي في أكثر من مائة ورقة (1/ 227 - 329) ورتب أزمانهم، وبلدانهم، فذكر علماء الحرمين: مكة والمدينة، والمِصْرين: البصرة والكوفة، والشام ومصر وخراسان، وواسط وبغداد والري وأصبهان وبلخ ونيسابور وبخارى وسمرقند والثغور.

ولم يكن هؤلاء بحمد الله من المغمورين، أو أنصاف المتعلمين، بل كانوا أئمة الأمة وهداتها من الفقهاء والمُحدّثين والمفسرين الذين أفنوا أعمارهم في الدعوة إلى دين الله والذب عنه بكل ما أوتوا، حتى حفظ الله بهم دينه، واتضحت معالمه، وقد قال اللالكائي (2 - 312) بعد أن ساق أقوال عدد منهم: «فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا أو أكثر، من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين، سوى الصحابة الخيّرين، على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام، ممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم».

ثم نبّه إلى أنّ العدد الذي ساقه ليس هو عدد جميع من جاءت الرواية عنه في هذه المسألة العظيمة، لكنه اختصر العدد فقال: «ولو اشتغلت بنقل قول المحدّثين لبلغت أسماؤهم ألوفاً كثيرة، لكني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار».

ولا عجب فيما ذكره اللالكائي من العدد العظيم، فإنّ علماء الكوفة لما جُمعوا؛ ليُقرأ عليهم الكتاب الجائر الذي ورد من المأمون بامتحان الناس في مسألة القرآن قال أبو نعيم الفضل بن دكين: «أدركت ثمانمائة شيخ ونيفاً وسبعين شيخاً، منهم الأعمش فمن دونه فما رأيت خلقا يقول بهذه المقالة -يعني خلق القرآن- ولا تكلم أحد بهذه المقالة إلا رمي بالزندقة». (رواه اللالكائي (481)).

وفي رواية أنه قال للوالي بعد أن أخبره بكثرة أهل العلم الرافضين لهذه المقولة: «رأسي أهون علي من زِرِّي». وأخذ زِرَّه فقطعه. (تهذيب التهذيب 8/ 275).

فإذا نقل أبو نعيم وحده عن هذا العدد الكبير من أهل العلم فلا غرابة في نسبة اللالكائي مقولة أهل السنة لألوف العلماء، على مدى الأزمنة المتطاولة، وفيهم أهل القرون الثلاثة الفاضلة.

أيقال: إن هذا العدد قد جهل حقيقة الأمر، وإن ما تحمّله أهل العلم من الأذى العظيم في هذا السبيل كان في أمرٍ لم يكن لهم فيه سلف من أصحاب النبي، وإن الواجب عليهم كان هو الكف عن الدخول في المسألة من أصلها، وإن الرشاد والسداد كان في قول من توقفوا؟ مع ما قد أوضحنا من أن توقفهم كان لعدم درايتهم بحيلة الجهمية التي نوّهنا عنها! لا ريب أن ذلك قد يفتح باباً، بل أبواباً على أمور من الاعتقاد الراسخ الثابت. فلئن كان هداة الأمة وأئمتها قد خطئوا الصواب في هذه المسألة وهم بهذا العدد الكبير والأزمنة المتفاوتة، فإنهم قد يكونون كذلك في أبواب أخرى من الاعتقاد الذي نافحوا عنه، وصنفوا فيه، ونشروه في المسلمين، وذلك أمر إن جوّزناه قوّضنا أمور الاعتقاد وزعزعناها بلا ريب.

وهذه المسألة قد تخفى على البعض في الوهلة الأولى، لكن لا يلبث من تأمل الأمر جيداً أن يتضح له وجه الصواب فيها، حتى إنّ الإمام الجليل سليمان بن حرب جزم بأنّ القرآن غير مخلوق بعد أن كان لا يقوله، فسئل عما بدا له فقال: «استخرجته من كتاب الله ?إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? (آل عمران:77) فالكلام والنظر واحد» (رواه عبد الله في السنة (169)).

هذا بعض مما عندي في هذه المسألة التي نحن بحمد الله فيها على بينة من كتاب ربنا وسنّة نبينا ونهج سلفنا الصالح، بدءاً بأصحاب رسول الله والتابعين لهم على بصيرة إلى يوم القيامة.

فإن عُدّ هذا تقليداً فأكرم به من تقليد، وثبتَنا الله عليه حتى نلقاه به.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير