تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أولها: أن الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن لو كانوا يعتقدونه شعرا و لم يروه خارجا عن أساليب كلامهم لبادروا إلى معارضته، لأن الشعر مسخر لهم سهل عليهم فيه ما قد علمت من التصرف العجيب و الاقتدار اللطيف، فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك و لا عوّلوا عليه علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة و المرمدون في هذا الشأن، و إن استدراك من يجئ الآن على فصحاء قريش و شعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان و بلغائهم و خطبائهم و زعمه أمه قد ظفر بشعر في القرآن ذهب أولئك النفر عنه و خفي عليهم شدة حاجاتهم إلى الطعن في القرآن و الغض عنه و التوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه، فلن يجوز أن يخفى على أولئك و أن يجهلوه و يعرفه من جاء الآن و هو بالجهل حقيق، و إذا كان كذلك علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال شديد، و هو أنهم قالوا: إن البي الواحد و ما كان على وزنه لا يكون شعرا، و أقل الشعر بيتان فصاعدا، و غلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام.

و قالوا أيضا: إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف رويهما و قافيتهما فليس بشعر.

ثم منهم من قال: إن الرجز ليس بشعر أصلا، لاسيما إذا كان مشطورا أو منهوكا، و كذلك ما يقارنه في قلة الأجزاء، و على هذا يسقط السؤال.

ثم يقولون: إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذي يتعمد و يسلك، و لا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي و الجاهل و العالم بالشعر و اللسان و تصرفه، و ما بتفق من كل واحد فليس يكتسب اسم الشعر و لا صاحبه اسم شاعر، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض كان الناس كلهم شعراء، لأن كل متكلم لا ينفك من ان يعرض في جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر و ينتظم انتظامه، ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه أغلق الباب و ائتني بالطعام، و يقول الرجل لأصحابه أكرموا من لقيتم من تميم، و متى تتبع الإنسان هذا عرف أنه يكثر في تضاعف الكلام مثله و أكثر منه، و هذا القدر الذي يصح فيه التوارد ليس بعد أهل الصنعة سرقة، إذ لم تعلم فيه حقيقة الأخذ كقول امرئ القيس:

وقوفا بهم صحبى على مطيهم …. يقولون لا تهلك أسى و تحمل

و كقول طرفة:

وقوفا بها صحبى على مطيهم …. يقولون لا تهلك أسى و تجلد

و مثل هذا كثير فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت و لم يمتنع التوارد فيه فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام لمنثور اتفاقا غير مقصود إليه، فإذا اتفق لم يكن شعرا، و كذلك يمتنع التوارد على بيتين، و كذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين و نحوهما، فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعرا، و إنما يعد شعرا ما إذا قصده صاحبه تأتّى له و لم يمتع عليه، فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له و إنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه لم يصح أن يقال إنه شعر و لا إن صاحبه شاعر، و لا يصح أن يقال إن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعرا لأنه لو قصده لكان يتأتى منه، وإنما لم يصح ذلك لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد، و ما كان شعرا من أحد من الناس كان شعرا من كل أحد؛ ألا ترى أن السوقي قد يقول اسقني الماء يا غلام سريعا قد يتفق ذلك من الساهي و من لا يقصد النظم فإما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينا فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه، فأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيرا، فإذا كان بيتا واحد فليس ذلك بشعر، و قد قيل إن أقل ما يكون منه شعرا أربعة أبيات بعد أن تتفق قوافيها، و لم يتفق ذلك في القرآن بحال، فأما دون أربعة أبيات منه أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات فليس بشعر، و ما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروي. و يقولون إنه نتى اختلف الروي خرج من أن يكون شعرا، و هذه الطرق التي سلكوها في الجواب معتمدة أو أكثرها، و لو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد وأهله يتقاربون فيه أو يضربون فيه بسهم.

فإن قيل في القرآن كلام موزون كوزن الشعر و إن كان غير مقفى بل هو مزاوج متساوي الضروب و ذلك آخر أقسام كلام العرب. قيل: من سبيل الموزون من كلام أن يتساوى أجزاؤه في الطول و القصر و السواكن و الحركات، فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا كقوله: ربّ أخ كنت به مغتبطا أشدّ، كفى بعري صحبته تمسكا مني بالود، و لا أحسبه يزهد في ذي أمل تمسكا مني بالود، و لا أحسبه يغير العهد، و لا يحول عنه أبدا فخاب فيه أملي. و قد علمنا أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل، بل هذا قبيل غير ممدوح و لا مقصود من جملة الفصيح و ربما كان عندهم مستنكرا، بل أكثره على ذلك.

و كذلك ليس في القرآن من الموزون الذي وصفناه أولا و هو الذي شرطنا فيه التعادل و التساوي في الأجزاء غير الاختلاف الواقع في التقفية، و يبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بيّنا، و تتم فائدته بالخروج منه. و أما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.

((انتهى كلامه بتمامه ـ رحمه الله ـ))

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير