تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرف الجهاد بذلك، وذلك لما سئل: ما الجهاد؟ قال: (أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم) (2).

ومن النصوص الدالة على ذلك أيضاً ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: لا أجده، قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟)، وفي رواية: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) (3).

وموضع الشاهد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لا يعدل الجهاد في سبيل الله إلا الصلاة والصيام بالصورة المذكورة في الحديث، مع كون الصائم القائم مجاهداً لنفسه، ولكن لما أطلق الجهاد لم يقصد به إلا القتال في سبيل الله.

ومن أجل هذه النصوص غلب المعنى القتالي على تعريفات العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم للجهاد؛ فمن الحنفية قال الكاساني: ((وفي عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك والمبالغة في ذلك)) (4).

ومن المالكية قال ابن عرفة: ((قتال مسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى، أو حضوره له أو دخوله أرضه)) (5).

ومن الشافعية قال ابن حجر بعد أن عرف الجهاد لغة: ((وشرعاً بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق)) (6 (.

ومن الحنابلة قال البهوتي: ((وشرعاً قتال الكفار خاصة، بخلاف المسلمين من البغاة وقطاع الطريق وغيرهم فبينه وبين القتال عموم مطلق)) (7).

وعرفه الصنعاني بأنه ((بذل الجهد في قتال الكفار أو البغاة)) (8 (.

وعلماؤنا حين عرفوا الجهاد بهذا الذي قلناه لم يفُتْهم أن مفهوم الجهاد قد يتسع ليشمل جهاد النفس والشيطان وجهاد الدعوة وغير ذلك، ولكنهم نظروا كما أسلفنا إلى النصوص الدالة على أن الجهاد إذا أطلق فإنما يقصد به القتال لإعلاء كلمة الله، ولذلك فإن منهم من أشار إلى إمكانية اتساع معنى الجهاد مع كون معناه الأصلي هو ما ذكرناه، وذلك كقول ابن رشد: (( ... فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أطلق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف، حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)) (9).

ولعل من أدلة كلام ابن رشد غير ما ذكرناه آنفاً، أن النصوص الشرعية التي أطلقت اسم الجهاد على غير القتال كانت تحمل في طياتها في كثير من الأحيان تأكيد أن المعنى الأصلي للجهاد هو القتال، وأنه هو الذي كانت تنصرف إليه الأذهان عند ذكر كلمة جهاد.

ومن ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد)) (10)، فقد جاء الرجل يستأذن في الجهاد المطلق، الذي لا يفهم غيره عند إطلاق كلمة الجهاد، وهو القتال في سبيل الله، فأرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جهاد مقيد، وتقييده في قوله: (ففيهما)، الذي يدل على أن المقصود بر الوالدين، ولذا فقد عد الصنعاني ذلك من باب المشاكلة أو الاستعارة حيث قال: ((سمى إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين وإزعاجها في طلب ما يرضيهما وبذل المال في قضاء حوائجهما جهاداً من باب المشاكلة، لما استأذنه في الجهاد، من باب قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)، ويحتمل أن يكون استعارة بعلاقة الضدية لأن الجهاد فيه إنزال الضرر بالأعداء واستعمل في إنزال النفع بالوالدين)) (11).

ومثل ذلك حديث عائشة أنها قالت: ((يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا،ولكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور)) (12).

فقولها: (نرى الجهاد أفضل العمل) يدل على أنه كان مستقراً عندها أن الجهاد هو القتال في سبيل الله، فأقرها صلى الله عليه وسلم على فهمها ثم أرشدها إلى أن الحج يعدل في حقهن الجهاد، بل هو أفضل الجهاد بالنسبة لهن.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير