قد يرى البعض أن التوسعة والتضييق فيما يقع عليه اسم الجهاد إنما هو أمر اصطلاحي ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقولون، وأقول لا شك أن الأمر في بعض جوانبه اصطلاحي، والكاساني مثلاً يطلق على جهادي الدعوة والقتال كليهما اسم الدعوة حيث يقول:
((والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان، وذلك بالتبليغ)) (13).
لكني أرى أن هناك من الأسباب المهمة ما يحملنا على الحفاظ على المعنى القتالي للجهاد، أو على الأقل إلى عدم نسيانه في خضم الدعوات المتعالية للتوسع في مفهوم الجهاد:
1 - ومن تلك الأسباب أنا نعلم أنه من الأصول المهمة التي ينبغي على الدعاة وأهل العلم مراعاتها معرفة حال المخاطبين، بحيث يخاطبهم الداعية بما يصلح من شأنهم، فيهتم ببيان ما يجهلونه ويذكرهم بما ينسونه، وإذا كان هناك في الأمة من أسرف في فهم نصوص الجهاد فلم يفهم منها إلا معناها القتالي، وأهمل ما عداه من معاني الجهاد، فإنه لا يشك متابع منصف في أن نسبة أولئك القوم إلى مجموع المسلمين هي نسبة قليلة، وإن علا صوتهم، وسُلطت الأضواء عليهم، أما أكثر المسلمين اليوم فقد تركوا الجهاد في سبيل الله بمعناه القتالي، بل راح حكامهم يسعون وراء سراب يسمونه السلام مع عدو سلبهم أرضهم، وانتهك حرماتهم، فكان ذلك من أكبر أسباب ذلتهم وضعفهم، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة،وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينْزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم) (14).
ولما كان حال الأمة بهذه المثابة، كان التركيز على المعنى القتالي للجهاد خيراً في نظرنا من التركيز على التوسعة.
وأنا أعلم أن حالة الضعف التي تعيشها الأمة ربما دفعت البعض إلى التركيز على قضايا الإعداد الإيماني؛ على أساس أنه يجب أن يسبق فكرة الجهاد بمعناه القتالي، ومع تفهمي لهذا الأمر، فإني أرى أنه من المهم مع هذا الإعداد الإيماني الذي لا اعتراض لنا عليه، أن يبقى المعنى القتالي للجهاد مستقراً في ذهن المسلم، حتى في زمن سقوطه عنه لعجزه ليبقى مستعداً للقيام بهذا الواجب عند تحصيله القدرة اللازمة لذلك، وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق) (15).
2 - كما أن التوسعة في مفهوم الجهاد وإن أفادت من جهةِ الترغيب في بذل كل جهد لنصرة هذا الدين وإرضاء الله تعالى؛ فإنها قد تحمل على مزيد من إهمال أمر القتال في سبيل الله، وذلك لشعور كل من بذل بعض الجهد في أي مجال بأنه قد أدى ما عليه من الجهاد، ولم يبق عليه شيء، وذلك مثلما نلحظه عند كثير من الناس لما فهموا خطأً مقولة أن أي عمل مباح يمكن أن يتحول إلى عبادة، فإنك ترى أحدهم ينشغل عن صلاته بل ربما لا يؤديها بالكلية، فإذا سئل في ذلك قال: أنا مشغول بعملي، والعمل عبادة كما أن الصلاة عبادة.
ولقد صار التوسع في مفهوم الجهاد سيفاً يسله كثير من أهل الضلال على كل من دعا إلى جهاد المعتدين المحتلين لأرض الإسلام، حيث يُرمى أولئك الداعين بعدم فهم المعنى الحقيقي للجهاد، الذي يشمل في نظرهم كل شيء إلا القتال في سبيل الله.
3 - ومن تلك الأسباب أن الدعوة إلى توسيع مفهوم الجهاد تأتي مقرونة في كثير من الأحيان بما قد يفهم منه التقليل من أهمية الجهاد القتالي، كتعبير بعض الأفاضل عن الجهاد القتالي بأنه الجهاد الأصغر، ليس بالمعنى الصوفي المعروف، ولكن بمعنى أنه الأقل من حيث الحيز الذي يشغله بين أنواع الجهاد.
وهذا المعنى وإن كان في نفسه صواباً، إلا أنه في المقابل ينبغي التذكير بأن الجهاد القتالي هو الجهاد الأكبر من حيث أهميته وفضله والثواب العظيم الذي بُشر به أهله، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً). [النساء:95].
فهؤلاء القاعدون الذين فُضِل عليهم المجاهدون قد يكونون قائمين بأمر جهاد الدعوة وجهاد النفس؛ لأن الله وعدهم الحسنى ومع ذلك فضل عليهم المجاهدون بالنفس والمال فدل ذلك على أفضلية الجهاد القتالي على ما عداه من أنواع الجهاد.
¥