من مدارج السالكين: فصل شهادة الله للقرآن بجعله موافقاً للعقل والفطرة.
ـ[أبومجاهدالعبيدي]ــــــــ[30 Dec 2003, 06:49 م]ـ
·
ارتباط الخير والشر بالعمل
قال ابن القيم رحمه الله وهو يتكلم عن الدعاء في كتابه الداء والدواء:
(وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال، ترتب الجزاء على الشرط، والمعلوم على العلة، والمسبب على السبب. وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع.
فتارة يرتب الحكم الخيري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين".
وقوله" فلما آسفونا انتقمنا منهم".
وقوله" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا".
وقوله" إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما".
وهذا كثير جداً.
وتارة يرتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم".
وقوله تعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين".
وقوله تعالى " وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا".
ونظائره.
وتارة يأتي بلام التعليل كقوله" ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب".
وقوله تعالى" لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً".
وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل كقوله تعالى: " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ".
وتارة يأتي بباء السببية، كقوله تعالى " ذلك بما قدمت أيديكم". وقوله "بما كنتم تعملون ".وقوله "بما كنتم تكسبون"، وقوله" ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله".
وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً. كقوله تعالى" فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى".
وكقوله تعالى" أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين".
وقوله" أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا".
أي كراهة أن تقولوا.
وتارة يأتي بفاء السببية، كقوله" فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها".
وقوله "فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية".
وقوله " فكذبوهما فكانوا من المهلكين".
وتارة يأتي بأداة لما الدالة على الجزاء كقوله" فلما آسفونا انتقمنا منهم".
ونظائره.
وتارة يأتي بإن وما عملت فيه، كقوله" إنهم كانوا يسارعون في الخيرات".
وقوله في ضوء هؤلاء" إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين".
وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله" فلولا أنه كان من المسبحين* للبث في بطنه إلى يوم يبعثون".
وتارة يأتي بلو الدالة على الشرط، كقوله "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم".
وبالجملة: فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتيب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب. بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.
ومن تفقه في هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر جهلاً منه، وعجزاً وتفريطاً وإضاعة، فيكون توكله عجزاً وعجزه توكلاً. بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن الإنسان أن يعيش إلا بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر.
والخلق كلهم ساهون في دفع هذا القدر بالقدر.
وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهذا وزان القدر المخوف في الدنيا وما يضاده سواء، فرب الدراين واحد، وحكمته واحده، لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يبطل بعضها بعضاً، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان.
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه:
أحدهما: يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير، وتكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم، وما جربه في نفسه وغيره، وما سمعه في أخبار الأمم قديماً وحديثاً.
ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه. وفيه أسباب الخير والشر جميعاً مفصلة مبينة. ثم السنة، فإنها شقيقة القرآن، وهي الوحي الثاني. ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما. وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما، حتى كأنك تعاين ذلك عياناً. وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به، وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة، فالتاريخ تفصيل لجزيئات ما عرفنا الله ورسوله به من الأسباب الكلية للخير والشر.
الأمر الثاني: أن يحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب. وهذا من أهم الأمور، فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ولا بد، ولكن تغالطه نفسه بالإتكال على عفو ربه ومغفرته تارة، وبالتسويف بالتوبة والإستغفار باللسان تارة، وبفعل المندوبات تارة، وبالعلم تارة، وبالإحتجاج بالقدر تارة، وبالإحتجاج بالأشباه والنظراء تارة، وبالإقتداء بالأكابر تارة أخرى.) انتهى.
¥