كم أحرص على قراءة كتاباتك المحررة أخي أبا عبدالعزيز، والتي تنادي على ما وراءها من العناية، والدقة، والأناة، أسأل الله أن يؤيدك بتوفيقه، وأن يزيدك من العلم النافع.
وقد فتحتَ باباً نافعاً من العلم، وهو باب عزيز، من يتقنه في العلماء قليل. وقد يكون العالم من الحفاظ، ويسرد المتون سرداً، ولكنه إذا أعوزته الحاجة للاحتجاج والاستشهاد ندت عنه الشواهد كما يند البعير الشارد، فتراه مغموماً لذلك، وقديماً قيل: الذاكرة ماكرة. وقد كنت سألت عن ذلك من أعرف فيه الإتقان الشديد للاستحضار فقال: إنما ذلك بالتعود وكثرة الممارسة، ولقد كنت أول عهدي بالتدريس يصعب علي الأمر صعوبة شديدة، ثم لم أزل أمرن نفسي على ذلك حتى يسر الله من ذلك ما كان عسيراً.
وقد ذكر قصصاً كثيرة من هذا علي بن ظافر الأزدي (567 - 613هـ) في كتابه الذائع:بدائع البدائه، ومن المتأخرين الطبيب العلامة محمد أبو اليسر عابدين في كتابه:النباهة في البداهة وغيرها مما أورده الأدباء في موسوعاتهم الأدبية كالنويري في (نهاية الأرب)، وأصحاب كتب التراجم على كثرتها. وهنا أنقل لك ما أذكره مما يشبه ما نقلته عن الحسين بن الفضل، وما رزقه من البداهة وسرعة الاستحضار.
** قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يوماً: أيها الناس! إن الله أحيا قريشاً بثلاث:
- فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ونحن عشيرته الأقربون.
- وقال تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك) ونحن قومه.
- وقال تعالى: (لإيلاف قريش) ونحن قريش.
فأجابه رجل من الأنصار، فقال: على رسلك يا معاوية
- فإن الله تعالى يقول: (وكذب به قومك وهو الحق). وأنتم قومه!
- وقال تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون) وأنتم قومه!
- وقال تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) وأنتم قومه!
ثلاثة بثلاثة، ولو زدتنا لزدناك!
** وقال الهيثم بن عدي: جاء رجل إلى الحجاج، فقال: إنَّ أخي خرج مع ابن الأشعث فضرب على اسمي في الديوان، ومنعت العطاء، وقد هدمت داري!!
فقال الحجاج: أما سمعت قول الشاعر:
ولرُبَّ مأخوذٍ بذنبِ قريبهِ ** ونَجَا المُقارفُ صاحبُ الذنبِ!
فقال الرجل: أيها الأمير، إني سمعت الله يقول غير هذا، وقول الله أصدق من هذا!!
قال: وما قال؟
قال: (قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون) ..
قال: يا غلام، أعد اسمه في الديوان، وابن داره، وأعطه عطاءه، ومر منادياً ينادي: صدق الله وكذب الشاعر!!
** وفي حياة الحيوان للدميري في ترجمة الحجاج بن يوسف، قال: كان الحجاج كثيراً ما يسأل القراء، فدخل عليه يوماً رجلٌ. فقال له الحجاج: ما قبل قوله تعالى: (أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)؟
فقال له: قوله تعالى: (إنك من أصحاب النار)!!
فما سأل الحجاج أحداً بعدها.
والقصص كثيرة، والأمر كما ذكرت يتأتى بالدربة، وكثرة المران، والحرص على الحفظ، وتعاهد المحفوظ بكثرة المراجعة، فإنه إذا كثر المحفوظ كان تذكر المطلوب أيسر على الذاكرة، وكان طلبه على طرف الثمام عند الحاجة إليه.
كما أن للذكاء الفطري دور في تلك القدرة على الاستحضار، فإنك تجد ذلك عند عوام الناس، ممن لم يطلب العلم، ولا سيما الشعراء الذين رزقوا حظاً منه، فإن بدائهم في الغالب أسرع من غيرهم، وأذكر قصصاً كثيرة للفرزدق في استحضاره للشواهد من الآيات، مع إن الناس لم يعرفوه إلا بالشعر. أذكر منها:
* صعد سليمان بن عبدالملك يوم جمعة المنبرَ، فسمع صوت ناقوس؟ فقال: ما هذا؟
قالوا: البيعة يا أمير المؤمنين. فأمر بهدمها فهدمت.
فبلغ ذلك ملك الروم، فكتب إليه: إنَّ هذه البيعة أقرها من كان قبلك، فإن كانوا أصابوا فقد اخطأتَ، وإن تكن أصبتَ فقد أخطؤوا!
فسأل سليمان من خواصِّ دولته الجواب، فأعياهم، فقال الفرزدق: عن إذن أمير المؤمنين.
قال: قل!
قال: يكتب إليه: (ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً). فسرَّ بذلك، وأمر له بجائزة.
ـ[محمد الربيعة]ــــــــ[22 Jan 2004, 07:34 ص]ـ
أتمنى من الشيخ خالد أن يستمر في هذا الموضوع، وذلك بوضع حلقات للاستحضار على أن تكون المواضيع دقيقة لاعامة مما يظهر فيها الاستنباط والاستحضار.
ـ[خالد الباتلي]ــــــــ[23 Jan 2004, 08:06 م]ـ
الأخوان الكريمان:
الشيخ / عبد الرحمن الشهري .. أشكرك على هذه الزيادات التي يحتفل بها في هذا الموضوع وهذا ماعهدناه في قلمك السيال.
الشيخ / محمد الربيعة .. أشكرك على تعليقك، ولم يتضح لي المراد من اقتراحك، وهل تقصد طرح أسئلة مشابهة لما مثلت به؟
ولك من أخيك التحية والتقدير،،
والسلام عليكم
¥