ـ[ابن الشجري]ــــــــ[27 Jan 2004, 12:55 م]ـ
الاخ الكريم عبد الرحمن الشهري حفظه الله
ماذكرتموه في وقفتكم الأولى أمر ملموس من النفس البشرية، وهو كالطبع لها لا تدعه حتى تدع الإبلُ حنينَها، وهذه الغرائز قد لا يكلف المرء بتغييرها أكثر من تكليفه بتهذيبها وترويضها، فلكل جديد في حياة المرء فرحة ثم تنقضي، فالملل والسآمة من أمراض النفس البشرية التي لايمكن الحكم بصحتها من عدمه إلا بأمر نسبي تتفاوت فيه الأجناس، إلا أنه في حد ذاته دليل على انتفاء الكمال البشري وإثبات العجز والافتقار دائما إلى الواحد القهار.
وقد ذكرتني بما سطرت يداك ـ لا شُلَّتا ـ ببحث يتناوله الفقهاء رحمهم الله في كتبهم، ألا وهو حكم المجاورة بمكة ـ حرسها الله ـ إذ كره جماعة من السلف المجاورة بها لمعان ذكروها منها ومِمَّا له تعلق بحديثنا ـ خوفا من التقصير في حرمتها واعتياد المكان والأنس به، مما يجر إلى قلة المهابة والتعظيم على حد قول الشاعر:
وأخ كثرت عليه حتى ملني ... والشئ مملول إذا مايكثر
قالوا ولهذا كان عمر رضي الله عنه يأمر الحاجَ بالرجوع الى أوطانهم، ويمنع الناس من كثرة الطواف بالبيت.
وكم من شخص حول مكة وفيها تمر به الأيام تترى ما طاف ولا سعى، وتجد المعتمر والحاج من أقاصي الصين والهند وما هو أبعد وأقرب قد طعن في عشر الستين أو السبعين أوالثمانين وهو يحلم أن يرى هذا البيت، فقلبه يخفق عند سماع ذكره، ومازال يجمع المال عمره لأجل ساعة في عمرة، فبعضهم يأتي محمولا على ظهر ابنه، وبعضهم يأتي قد طوى أكفانه ليوم رمسه.
أما كتاب الله تعالى فهو فوق هذا كله، إنما أخشى أخي الكريم أن يكون من باب قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم)، فهو الكتاب الذي إن قرأه المؤمن ازداد إيماناً ويقينا، وإن قرأه الضال بنفس غاوية إزداد ضلالاً وتيها، لامبدل لكلمات الله، فهو كتاب لا ككل الكتب، كلما ازددت علما به أزددت اكتشافا لنفسك المتعطشه لغزير معانيه على حد قول بعضهم:
وإذا ما ازددت علما ... زادني علمي علما بجهلي
(تنسب للشافعي فالله أعلم)
وما أجمل أن نورد هنا قول الشاطبي رحمه الله واصفا كتاب الله تعالى في قصيدته اليتيمه:
وإن كتاب الله أوثق شافع ... وأغنى غناء واهبا متفضلا
وخير جليس لايمل حديثه ... وترداده يزداد في تجملا
وإيرادها يغني عن شرحها أو التعليق عليها.
وأختم بهذه الحكاية:
سمعت أنه لما أسلم بعض العجم سئل عن سبب إسلامه فأجاب: مامن مؤلف أو كاتب يكتب كتابا إلا وتجده في أول كتابه يقدم ما يعتذر به عن أي قصور أو خلل قد يلحظ في كتابه لتيقنه من ذلك، إلا كتاب الله فإنك أول ما تقرأه يطالعك قول الحق سبحانه (الم * ذلك الكتاب لاريب فيه).
الوقفة الثانية:
أخي الكريم كنت أشرت في صفحة سابقة لبعض ما نوهتم عنه هاهنا ـ عندما كتب أحد الإخوة عن عبد الباسط رحمه الله ـ وأنا أنقل بعضا مما كتبت:
(هذا المقرئ رحمه الله رحمة واسعه له صوت من اندى الاصوات عز نظيره , فعذوبة الصوت وحسنه نعمة من أجل نعم الله. فأمره عجب كماقال العسكري رحمه الله، فمنه مايقتل كصوت الصاعقه. ومنه مايسر ويبهج، ومنه مايبكي ومنه مايزيل العقل .. وقد بكى ماشرحويه ـ اليهودي ـ من قراءة أبي الجراح فقيل له كيف تبكي من كتاب لاتصدق به؟ قال: إنما أبكاني الشجا.قال: وبه ينومون الصبيان , ويسقون الدواب ... الى أن قال:وذلك موجود في كلام العرب: قال حميد بن ثور:
وماهاج هذا الشوق إلاحمامة ... دعت ساق حزم حمام ترنما
عجبت لها أنا يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغربمنطقها فما
ولم أرمثلي شاقه صوت مثلها ... ولاعربياشاقه صوت أعجما.
فللصوت أمر عجيب في النفس يلحظه كل ذي طبع سليم، فاكثر من تراهم يبكون عند سماع كلام الله ليس إلا لعذوبة صوت القاري وحسنه، ولست بهذا اذم هذا الصنيع، فغالبا ماتوجد رقة في القلب بعد سكب العبرات ينشأ بعدها تدبر لكلام الله تعالى فبينها رابط وثيق.
الى الله أشكو دمعة تتحير ... ولو قد حدى الحادي لظلت تحدر
¥