تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

للتفسير، لا يخالف عن مقتضاه.

هذا، والقرآن الكريم لا يفتأ يصوّر للنفس الإنسانية رؤى مثيرة تغريها بتحقيقها، ابتغاء الارتقاء بها إلى مستوى يحقق معنى إنسانيتها في مواقع الوجود، مما تطمح هي إليه، وتستشرفه من القيم، بحكم فطرتها، إذا سلمت مما تلتاث به من مخلفات البيئة الموروثة، والتقاليد المصطنعة، والأعراف البالية المتحكمة، أو الأهواء الفاسدة المتبعة، أو التفكير الضَّال.

هذا، ويستغرق الخطاب الإلهي كافة وجوه النشاط الإنساني، توجيهاً وهيمنة، بما يستقيم به أمر هذه الحياة في جانبها العملي بوجه خاص-عقائد وعبادات، وآداباً، وتشريعاً عملياً يتغيَّا تحقيق كافة المصالح الحيوية الحقيقية الجديّة المعقولة المتنوعة-وبما يوجب اللفت إلى مواطن العبَر، يستخلصها من تجارب الماضين، وقصصهم، منذ بدء الخليقة، نتيجة حتمية لسنن اجتماعية، وكونية ثابتة، لا تجد لها تبديلاً، مما يؤذن بضرورة دراسة هذه السنن وتفهم مقتضياتها، إذ الإيمان بسنن الله في كونه، كالإيمان بأحكام الله في شرعه، سواء بسواء، مما يختلف مدى العلم به، والتعمق فيه، باختلاف ثقافة المفسر، وسعة مداركه التي يحددها مبلغ ما وصل إليه التقدم العلمي في عصره، وهذا يستلزم اختلاف التفسير والفهم باختلاف التقدم العلمي وتطوره، في كل عصر، أقول ذلك الخطاب الذي يتوجه إلى النفس الإنسانية – نصاً أو دلالة- يحمل في دلالاته- اللغوية والعقلية –معاني شتى تتعلق بشؤون الحياة الإنسانية، وتتضافر شِعابه على قيادة المجتمع البشري، في كل عصر، بما يدبر الأمر في الاعتقاد أولاً، باعتباره المنطلق الأساسي للسعي المسؤول، حتى يكون السلوك اعتقادياً، بمعنى، أن يسلك الإنسان ما يعتقد، أيَّاً كان مركزه الاجتماعي، لقوله تعالى: (من عمل صالحاً، من ذكر أو أنثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة ((9). فكان الاعتقاد سلوكياً في المقام الأول، وليس مجرد فكرة ميتافيزيقية مجردة لا صلة لها بالواقع المعاش، فضلاً عمّا يرسي ذلك الخطاب الإلهي من أصول تنهض بالحرية المسؤولة، والمساواة الواقعية بين الشعوب في معدن الكرامة الإنسانية التي هي منشأ حقوق الإنسان، والعدلِ المطلق، باعتباره حقاً خالصاً مشتركاً بين الآدميين، وبحكم جبلتهم الآدمية، مما لا يعبث بميزاته، اختلاف دين، أو عنصر، أو لون، أو عصبية، أو طائفية، أو مذهبية، أو مودة، أو قرابة بل ولا عداء، لقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى ((10) وفي هذا إشارة بالغة إلى "إطلاق مفهوم العدل" في القرآن العظيم، ومبلغ الحرص على إقامته وتحقيقه بربطه بالتقوى الدينية المتورعة التي جعل القرآن من مفهومها، معنى عملياً منوطاً بإقامة العدل واقعاً بين البشر، تمكيناً للجانب العملي للحياة الإنسانية، واتخذ من "التقوى" تعبيراً واقعياً له، حتى يكون العدل مظهراً عملياً ملموساً للتقوى، ربطاً للمعنى الاعتقادي بالواقع العملي الحيوي، في أرقى صوره، وأسمى معارضه، وهذا يؤكد المعنى الذي أسلفنا –خصيصة تفردت بها العقيدة الإسلامية- من كونها عقيدة سلوكية، وإن السلوك اعتقادي بما تنبع بواعثه منها، مما يجعل "العقائد" في القرآن الكريم، أمراً غير مقصور على "الغيب" فحسب، بل هو متصل –كما ترى- أوثق اتصال، بالواقع المعاش، اتصال الروح بالجسد، تأثيراً أو حكماً، أو على حد تعبير الأصوليين، اتصال الباطن بالظاهر، بحيث لا يتصور انفصام بينهما في مواقع الوجود، نظرياً، ولا ينبغي أن يكون ذلك بينهما عملياً، ومن هنا، كانت الأفعال من العقود وسائر التصرفات معتبرة بالنيات والقصود، صحة وفساداً (11)، لقوله (: [إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى] ترتيباً للنتائج والثمرات على بواعث "التقوى" دنيوياً وقضائياً، فضلاً عن الحكم الدياني، وتوجيهاً للطاقات الروحية والنفسية في الإنسان، وتنقية لها مما عسى أن يشوبها عادة من أوضار، وتزكية لها، أن يلابسها من منازع الشر، والهوى، أو يخالجها أحياناً من ضلال الفكر، واشتباه الحق والتباسه بالباطل (12).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير