تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأما فيما يتعلق بالحكم الدياني، توجيهاً للطاقات الروحية، فقد أشار الإمام الطبري في تفسيره إلى قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكّام، لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، وأنتم تعلمون (أشار إلى هذه التفرقة بين الحكم القضائي والدياني مأثوراً عن التابعين، حيث يقول: "حدثنا الحسن بن يحيى .. عن قتادة في قوله: " (وتدلوا بها إلى الحكام (قال: (لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم، وأنت تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يحل لك شيئاً، كان حراماً عليك) (13). ثم إن القرآن الكريم يستثمر هذه الطاقات بعد تنقيتها –بالعقيدة والتشريع معاً- في الخير الإنساني العام، لما للروح النقية الصافية من طاقات هائلة تمكِّن الإنسان من الارتقاء إلى عليا درجات الكمال، ولما لها من أثر في السلوك الحيوي أي أثر!

هذا، ولا ريب أنك وقفت – من خلال ما قدمنا – على الملحظ الإنساني العميق من اعتبار القرآن العظيم، العدل المطلق قيمة كبرى في المجتمع الإنساني، تعلو على اختلاف الدين، والعنصريات، والطائفيات، والانفعالات من المودة، والبغض، والقرابة، وما إلى ذلك، إزالة للعقبة الكؤود التي تحول دون تحقيق "رسالته" من الإصلاح الاجتماعي، وإقامة أسس الحضارة الإنسانية الموضوعية المطلقة التي لا تقبل التجزئة – زماناً، ومكاناً، وأناسيَّ – ولتنهض بالتعاون الحيوي الضروري المشترك في ميدان البر الإنساني العام الذي ينهض بالتواصل الحضاري حتماً، بما يتم في ظله من تبادل المنافع المادية والمعنوية، تبادلاً عادلاً يسد افتقار بعض الدول بما هو متوافر عند بعضها الآخر، بحكم تنوع الثروات في البيئات المنتشرة على وجه البسيطة، مما يخضع لاختلاف العوامل الجغرافية، أو التقدم والتخلف في المضمار العلمي والثقافي، فكان هذا، تكاملاً تقتضيه ظروف "الحياة الإنسانية" نفسها في أصل نشأتها، وتباين البيئات أو الظروف الكونية، وهو المشار إليه في النداء الإلهي للناس كافة، لا بوصف إيمانهم، بل بوصف إنسانيتهم، بما يلفت إلى أصل تكوينها من ذكر وأنثى، في مثل قوله تعالى: (يا أيها الناس، إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا (والتعارف مقصود به التعاون على الصعيد الإنساني والعالمي اتفاقاً، وليس عسيراً على التعقل النافذ الواعي أن يشتق من هذه التعاليم، ما يستهدفه القرآن العظيم، من اعتباره الحياة الإنسانية، وحدة متسقة كاملة في شتى بقاع الأرض، فضلاً عما جاء به مما يسندها، ويوطد دعائمها، ويُحكم ترابطها، من "أصول الأخلاق" التي يرتد إلى "الحاسة الفطرية" (14) في الإنسان، تقديرها، واعتبارها: من الرحمة، والتكافل، والإيثار، والإحسان يفوق العدل الدقيق –قضاء واقتضاء- في التعامل، والصدق، والإخلاص، والإتقان في العمل وتجويده، والوفاء بكل التزام ينشأ عن عقد أو تصرف في الميدان الداخلي، أو عن معاهدة تبرم على صعيد العلاقات الدولية، على أساس من المساواة في الاعتبار، مبرأة من أسباب الدَّخَل، والمراوغة، والخداع، والحيف، والشطط، أو التسلط، والإكراه، والتعجيز، بشروط تمليها الغلبة والقوة الغاشمة، لعموم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (أضف إلى ذلك كفالة تلك المبادئ، والقيم الموضوعية المطلقة – ذاتاً ومكاناً وزماناً وأناسيَّ حال تنفيذها – بما يحقق للأمة السيادة والعزة والمنعة، إن في كيانها الداخلي، أو في وجودها الدولي، إلى الزمن المقدر لبقاء هذا العالم.

هذا، ولعل من أبرز خصائص النص القرآن في بينات هداه أيضاً، هذا "التسامح الديني" تجاه المخالفين، بما يوجب البر والإقساط إليهم، ما لم يكونوا محاربين، فقضى بذلك على التعصب الديني، والمذهبي، وعلى الأزمات الطائفية التي بات يعاني من ويلاتها وشرورها وآثامها اليوم كثير من شعوب الأرض، أثراً من آثار الاستعمار، بما انتهج من سياسة التفريق المعروفة، للإضعاف والاستضعاف، توصلاً إلى الاحتلال، والاستلاب، والهيمنة، وإشاعة الظلم والفساد، مما يفضي إلى تسافك الدماء والتقتيل والتشريد، وتخريب معالم الحضارة، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم: العدوان، والبغي والفساد في الأرض (15)، عنوة وبقوة السلاح، تطبيقاً لشريعة الغاب واللامعقولية، وهو المعني بما يطلق عليه القرآن الكريم "حكم الجاهلية" (16).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير