تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا، والقرآن الكريم، إذ يمكِّن – بتعاليمه، وبيناته، وأصول تشريعه، ومقاصده الأساسية – أقول إذ يمكِّن بهذا كله للجانب العملي من الحياة الإنسانية، يستجيب في الوقت نفسه – لرغائب الروح في استشرافها للقيم والمثل العليا – كما قدمنا – تحقيقاً "للتوازن" بين مطالب الجسد والروح معاً، أو قل بين مطالب الحياة المادية، ومطامح الحياة الروحية، من القيم الإنسانية الخالدة، دون أن يتيح لإحداهما الحيف على الأخرى، ذلك، لأنه لا يرى في المطالب المادية مشكلة يتعثر بها سير الحياة بالناس، بما يورثها من التخلف أو الضعف أو الحرمان، لأنه –سبحانه- خلق للناس ما في الأرض جميعاً، مباحاً للانتفاع والتصرف، فكان هذا أصل الحل العام، وما عداه من المحرمات قد جاء على سبيل الاستثناء، مفصلاً محصوراً في عدد يحصى قلة، ترى هذا مدلولاً عليه، بقوله سبحانه: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ((17) وقوله تعالى: (وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم، إلا ما اضطررتم إليه ((18).

هذا، وأورد القرآن الكريم النص الذي يتعلق بأصل الحل العام: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً (مورد الامتنان، ولا امتنان في غير إسباغ النعم- المادية والمعنوية- على السواء، ووصفها بأنها ظاهرة وباطنة لإفادة العموم من حيث أنواعها وطبائعها: (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة ((19) فضلاً عن تسخير ما في السموات والأرض للإنسان: (وسخر لكم ما في السموات والأرض ((20) تذليلاً واقعياً بيَّنا، يقصد به أن يكون مادة للانتفاع، والتصرف، وللبحث العلمي الذي يتبين به ما تحكم به الموجودات في الكون وأجواز الفضاء، من سنن ثابتة مطردة، فضلاً عما ينبغي أن يتخذ من المنجزات العلمية المتطورة، بفعل التقدم العلمي، من دلائل عقلية باهرة على عظمته سبحانه، وجلاله، في قدرته وبديع صنعه، ولعل في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء ((21). إشارة إلى هذا المعنى، الأمر الذي يجعل للتقدم العلمي وتطوره في شتى مناحيه، وفي كل عصر، أثراً بالغاً في ترسيخ عقائده، من جهة، وفي تمكين العقل من تفهم النص القرآني، وتوسيع مفاده، وتعمق مداركه، واستبطان دلالته، ومعانيه، وبعيد مراميه، من جهة أخرى.

وعلى هذا، تبين أن القرآن الكريم، يرى أن "المشكلة الإنسانية الكبرى" كامنة في فقدان هذا "التوازن" بين مقتضيات المثل العليا، والقيم الإنسانية الموضوعية من جهة، وبين مطالب الحياة المادية واحتياجاتها، من جهة أخرى، ومن هنا، تراه – في تعاليمه – لا يجيز مطلقاً الإفراط أو الغلو في إحداهما، على حساب الأخرى –كما أشرنا- إغراقاً في المادة، وعبادة لها، أو رفعاً لها فوق القيم العليا، كما لا يجيز غلواً في الجانب الروحي، وإسرافاً فيه (22)، بحيث يفضي به إلى اعتزال الحياة الدنيا، أو ازدرائها، وما ينبغي لامرئ أن يحتقر دنياه وقد خلقت من أجله، ولا يتوهمن أحد أنه باعتزاله إياها، وانصرافه عنها أو زهده فيها، يتقرب إلى الله زلفى، بل هو – في واقع الأمر – عصيان، ومخالفة عن أمر ربه، بما يتخلى عن "رسالته" في الحياة التي تبرر استخلافه فيها، بما هي "أمانة" قد حُمِّلها، بصريح النص القرآني، وعهد إليه أداؤها، تكليفاً، فكانت مادة ابتلائه في صدق العبودية لربه طوال عمره، وهي –في الوقت نفسه- وسيلة عملية، لتحقيق عزته وسيادته فيها، صلاحاً وإصلاحاً للكون، تعميراً أو إشادة، لقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان (بل تفسر الوجود الإنساني كله على وجه الأرض، بما تنهض بمعقوليته، وتقصي الإنسان العَقول عن فكرة الفناء الأبدي الرهيب.

ولا جرم أنه بتحقيق "التوازن" في تعاليم هذا الكتاب العزيز، حُلَّت أعظم مشكلة تواجه المجتمع البشري منذ نشوئه، بما جمع فيه مما تقتضيه الفطرة الإنسانية ذاتها، ظاهراً وباطناً، جسداً وروحاً، جمعاً عملياً محكماً، لا إعنات فيه، ولا حرج، ولا استعصاء على التنفيذ، بما يقوم على خبرة عميقة بأسرار النفس الإنسانية، ومنازعها، لقوله تعالى: (ألا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير ((23)، وقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ((24)، وقوله جل ثناؤه (كتاب أحكمت آياته، ثم فصِّلت من لدن حكيم خبير ((25) ذلك، لأن الذي فطر الفطرة، هو الذي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير