تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا، والبدء المنطقي المعقول الذي انطلق منه النص القرآني في رسالته للصلاح الإنساني، والإصلاح العالمي، هو نقطة إصلاح النفس البشرية، بما يتعاورها من نوازع وأهواء، لأن إصلاح العالم، لا يتم إلا بصلاح المهيمن عليه المستخلف فيه واقعاً، وهو "الإنسان" ومن هنا تجد آيات كثيرة لا تحصى تعالج النفس الإنسانية، بعد تبصيرها بطريقي الخير والشر. لقوله تعالى: (وهديناه النجدين (رشداً وغياً، وتجعل تزكية النفس الإنسانية، أو تَدسسيتها، رهناً بالإرادة الذاتية لصاحبها (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها (فوضعه بذلك على مفترق الطرق، وحذره أن تتفرق به السبل، لقوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل، فتفرق بكم عن سبيله ((36) ولا شيء يفرق الأمة، طرائق قدداً، أشد من تعدد الاتجاهات وتضارب الغايات، وفساد الاعتقاد، ولا شيء يكسب الأمة منعة وقوة ووحدة، من وحدة الغاية، وصحة الاعتقاد: (واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا ((37) (وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون ((38).

أقول، آيات كثيرة لا تحصى تعالج النفس الإنسانية، بتغليب منازع الخير فيها، لتسلك سبيله، بدليل جعله "مادة الابتلاء" في السعي الدنيوي المسؤول:

(ونبلوكم بالشر والخير فتنة ((39) وتتخذ تلك الآيات – في سبيل الوصول إلى غايتها، والنجح في هدايتها وتوجيهها وحكمها – أسلوب الترجية والترهيب، أو البشارة والنذارة (40).

هذا، ويشير القرآن الكريم إلى أساس هذه المعالجة، ومنشَئِها، في كثير من آيهِ وبأسلوبه المزدوج من البشارة والنذارة، من أن في النفس الإنسانية، قوتين متصارعتين أبداً: قوة تدميرية طاغية، رابضة في أعماق النفس البشرية، وقوة أخرى تنتزع إلى الخير نزوعاً قوياً أيضاً، فتراها تتشوق إلى الحق والعدل، وتتشوف إلى القيم الموضوعية الإنسانية، والمثل العليا الخالدة، استشرافاً نابعاً من الفطرة السليمة ذاتها، حين لا تنازعها مخلفات البيئة أثرها – أو عوامل الشر تطلعاتها، مما يفسد عليها صفاءها، ويعكر نقاوتها – كما أسلفنا – ثم يسلمها آخر الأمر إلى الطغيان العاتي والعدوان الظالم، بل والإمعان فيهما، على النحو الذي يُرى على الصعيد الدولي، مما هو واقع ومشهود، فكان لا بدَّ لإصلاح النفس الإنسانية من سند روحي، يغلِّب عوامل الخير على منازع الشرّ فيها، ولا نعلم غير الدين من العلم أو الضمير، يقوم مقامه في التأثير في ميدان النفس الإنسانية، ذلك لأنه ثبت قطعاً أن الإنسان إذا خُلِّي وأمر نفسه، تغلبت عوامل الشر فيها، فطغت على حكمة العقل، وحيوية الضمير، أقول قد أشار القرآن الكريم إلى هاتين القوتين المتصارعتين أبداً في ميدان النفس الإنسانية، بقوله سبحانه: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعاً بصيراً، إنَّا هديناه السبيل، إما شاكراً وإما كفوراً ((41) وقوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي ((42) وقوله عز وجل في المحاورة التي حكاها القرآن الكريم: (إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، نحن نسبح بحمدك، ونقدس لكَ، قال: إني أعلم مالا تعلمون ((43) مما يتضمن تقريراً لأصالة هذه "النزعة الشريرة في الفطرة الإنسانية" غير أنه تعالى قد أشار إلى ما استقر فيها أيضاً من قوة منازع الخير، وهو سبحانه أعلم بها، وبآثارها، فكان هذا الاستخلاف الإنساني في الأرض، دليلاً على جدارة الإنسان به على الرغم من تأصُّل منازع الشر فيه.

ويترتب على هذا، أنه كلما ازداد المفسر خبرة بدقائق النفس الإنسانية، كان تفسيره أقرب إلى الحق القرآني، وأكثر مطابقة "لسمو معانيه" بما يتهدى سمت الحق الذي نصب الشارع الدلالة عليه، وأنه بتطور معارفه، وثقافته، عمقاً وسعة ودقة، يتطور فهم المفسر في تحديده لمفاد النص القرآني، عمقاً وسعة، تبعاً لذلك، بما هو جم المدارك، عميق الدلالات، لقوله عزّ شأنه: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر، قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدداً ((44).

هذا، والواقع أن الفهم الإنساني للقرآن الكريم –فيما للرأي فيه مجال- يتطور، تبعاً لتطور أسباب كسب المعرفة ومصادرها في كل عصر، ولا سيما في ميدان النفس الإنسانية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير