فتبين أن من مهمة القرآن الكريم في رسالته، توجيه هاتين القوتين المتصارعتين عبر الزمن، إلى ما فيه خير الإنسانية، لأن الإنسان هو الإنسان، وتسديد نزوعهما بما يكفل له صلاحه وعزته وسعادته، أفراداً وشعوباً، وأمماً.
نخلص من هذه "المقدمة" إلى أن للتفسير وظيفة كبرى عليه أداؤها في كل عصر بما يرتقي إلى مستواه، لأن النص القرآني، وبينات هداه "جم المدارك عميق الدلالات" – كما ذكرنا – يبلغ العقل الإنساني المتفهم منها، ما تسعفه طاقته العلمية والثقافية التي بلغها عصره، بما يدبر أمر الأمة في شتى مناحي حياتها، وبما يمسك عليها كيانها، ويمهد أمامها سبيل التقدم والازدهار، ويفصح عن هذا المعنى قوله (: [القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه] وقد جرى على لسان السلف، قولهم: "إنك لن تفقه كل الفقه حتى ترى القرآن وجوهاً" (45) ليحمل النص القرآني اجتهاداً بالرأي إبان تطبيقه – على الوجه الذي يحقق للأمة مصالحها الجدية الحقيقية المعتبرة، مما يكون للخبرة العلمية مكان في تقويمها، شريطة ألا يكون ذلك الوجه قد استُكره النص القرآني على حمله عليه، لما أشار إليه النبي (في صدد بيان ما يخشى على مصير أمته من أمور ثلاثة أحدها: "ظهور رجال يؤوِّلون القرآن على غير تأويله" (46) وهو ما حذر منه أيضاً، عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في قولته المشهورة: "أخاف عليكم أحد رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله" (47) أي تأويلاً مغرضاً مفتعلاً على غير الوجه العلمي الصحيح، أو على غير ما أنزل الله (48) مما يشير إلى أن للتفسير أثراً بالغاً على مصير الأمة، بما يتخذ هذا القرآن من مكانة القداسة والقيادة في حياة المسلمين.
يرشد إلى هذا أيضاً، قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ((49) ويقول الإمام الشافعي في الرسالة، استدلالاً بهذه الآية الكريمة: "وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله، أن يقول إلا بالاستدلال" (50) أي المستند إلى أصل ثابت في الشرع.
وعلى هذا، يبدو لنا، أن التفسير يفقد وظيفته، بل ويصبح غير جدير بهذا الاسم، إذا لم يجاوز حدود التحليل اللفظي للمفردات، أو الوجه الإعرابي النحوي، أو بيان النكات البلاغية، بل عليه النفاذ إلى ما تضمنه النص القرآني من وجوه الهداية الإلهية، وتعاليم الوحي، واستشراف مراميه البعيدة التي تمثل حِكَم التشريع التي هي بطبيعتها "عناصر عقلية" لا يمكن استخلاصها، أو تبنيها إلا بالفكر النفاذ، والبصيرة النيرة، والعقل المدرك، بالنظر إلى طبيعة هذا النص، من حيث تصرفه في وجه البيان، على نحو معجز، وبما يزخر به من المعاني العقلية والوجدانية، والحكم الغالية الرفيعة، في بينات هداه، لذا كان الرأي العلمي من أهله –وفي مجاله- مما يتوقف عليه الإفصاح الموضوعي الأمين، عن معاني القرآن الكريم، توقفاً بعيد المدى، الأمر الذي يجعل قيمة التفسير منوطة بهذا المعنى، وبهذا الأداء على نحو يقرب الهداية الإلهية إلى النفوس، ويهيمن بسمو معانيها على الأرواح، بما ثبت حقاً أنه هدى ورحمة للعالمين.
على أن هذا الوجه من التفسير بالرأي من أهله القائم على الدليل، يتعلق بقسم كبير من القرآن الكريم، وهو ما أشار إليه الإمام الزركشي في كتابه البرهان، وجعله مختصاً بالعلماء، حيث يقول ما نصه: "وكل لفظ احتمل معنيين فصاعداً – أي غير قاطع الدلالة – فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه" (51) ومعظم آي القرآن الكريم ذلول ذو وجوه من المعاني، بمنطوق الحديث الذي تلونا.
وهذا يشير إلى أن التفسير بالرأي المجرد وعن غير علم، أو "التأويل المستكره" لهوى أو غرض معين، من الكبائر التي حذر الرسول (منه بقوله: [من تكلم في القرآن، بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار] (52) وهذا المصير يستلزم أن يكون التأويل المستكره القائم على الهوى والغرض أو الرأي المحض من الكبائر.
ونتناول فيما يلي بحث المنهج العلمي الذي التزمه الإمام الطبريّ في موسوعته التفسيرية، ولما كان المقام لا يتسع للتفصيل، فقد اقتصرنا على بيان المعالم.
منهج البحث
-المقدمة:
-معالم المنهج العلمي الذي التزمه الإمام الطبري في تفسيره للقرآن العظيم:
أولاً-المأثور من السنة الثابتة، مما اعتمده الإمام أصلاً جوهرياً في منهجه، ومصدراً علمياً لتفسيره، ووجه تأصيله.
أ-بيان وجه حاجة القرآن الكريم الماسة، إلى المأثور.
ب-فطرة البيان القرآني نفسه، ومنهجه في بيان الأحكام.
ثانياً-مأثور السلف، ركناً مكيناً في منهج تفسير الإمام، وتقويمه أصولياً.
ثالثاً-معاقد الإجماع.
رابعاً-المنطق اللغوي، باعتبار أن دلالة القرآن على معانيه –في الأصل- ذاتية، وذلك حين يعوز الأثر، والإجماع، واستجابة لخصائص النص القرآني في كافة دلالاته اللغوية والعقلية.
خامساً-موقف الإمام الطبري من مبدأ أعمال الرأي القائم على العلم في منهج تفسيره، وأن رفضه تقديم الرأي المجرد على ما اختص الله تعالى نبيه ببيانه، لا يستلزم منع التفسير بالرأي بإطلاق.
سادساً-مقارنة بين موقف الإمام من الاجتهاد بالرأي في التفسير، وبين موقف المحققين من أئمة التفسير، والأصوليين والفقهاء، وأئمة علوم القرآن، مشتقاً من واقع نصوصهم في مصنفاتهم.
سابعاً-موقف الإمام الطبري من "التأويل" بوجه خاص، منهجاً عقلياً في التصرف في المعاني دون الألفاظ، بما يشمل:
أ-مفهوم التأويل في اللغة.
ب-مفهوم التأويل في استعمال القرآن الكريم.
جـ-مفهوم "التأويل" في البيئة الأصولية.
د-ما استقر في تفسير الإمام الطبري، من "التأويل" مفهوماً واستعمالاً.
هـ-ما يستند إليه "التأويل" من أصول السنة، وما انتهجه الصحابة في اجتهاداتهم مما يتصل بالتأويل، استنباطاً وتطبيقاً.
7
7
7
7
يتبع >>>
¥