ومعلومٌ أنّ هؤلاء كانت كتاباتهم ثورةً على دين محرَّف، وكنيسةٍ منحرفةٍ مستبدة، فجاء أركون ليجعل من فكره امتداداً لهذا الاتجاه، ولكن المتفلسف هذه المرة؛ يثور على دينٍ صحيح؛ لا كنيسةَ فيه، وكتابٍ محفوظ؛ لا ريبَ فيه.
كما أنه يستمدُّ أيضاً في دعواه هذه من كتابات بعض المستشرقين المعاصرين، الذين يضاهئون بقولتهم؛ قول الذين كفروا من قبل ([12]).
ويستلهم أركون ـ دائما ـ في دعوته إلى نزع القداسة عن القرآن الكريم، وخلعِها على الإنسان؛ تلك الصرخة الإلحادية التي جاهر بها الفيلسوف الألماني "نيتشه " حين رفَعَ عقيرته قائلاً: " لقد مات الإله "!، وذلك إبَّانَ الثورة
الصناعية في أوربا ([13]). ولا يعنينا هنا ما الذي كان يقصده " نيتشه " من أُغلوطته هذه؛ وإنما المهم أن " أركون " أراد أن يقول لأهل الإسلام: يجب أن تتخلوا عن إيمانكم بالله وبكتابه لكي تتقدموا، كما أن الغرب استقل ركب الحضارة
لما أن تخلى عن إيمانه وأناجيله ([14])، وهذا قياسٌ لا يصحُّ؛ إلا إذا صحَّ قياس اللبن على الخمر، وهيهات.
إذَن فمادة هذا الرجل خليطٌ من فلسفاتٍ مادية تُعلي من شأن المخلوق والمادة، وتغضُّ من شأن الخالق – جل في علاه – والوحي المنزل.
د ـ مسوغات هذه الدعوى:
أما المسوِّغات التي يستند إليها هؤلاء في دعوتهم, فهي الضعف الحضاري الذي يعاني منه العرب والمسلمون, وهم يعزون ذلك إلى تمسك المسلمين " بتراثهم "، وتقديسهم للقرآن الكريم, ويقترحون عليهم إعادة النظر في هذه المسلَّمة,
ويطرح أركون السؤال الآتي: " من الذي لا يشعر اليوم بالحاجة الملحَّة لإعادة التفكير جذرياً بمسألة النزعة الإنسانية في الوسط الإسلامي؟ " ([15]) اهـ, والجواب: أنْ لا أحد, سوى أركون نفسه, وشرذمة قليلون ممن وافقه على هذه النحلة.
ويرى " أركون " أن من أعظم أسباب تخلف المسلمين اليوم, عودتُهم إلى دينهم خلال أربعين سنةً مضت, ولا يُخفي خيبة أمله في هذا الصدد, فقد كان يأمل أن يبتعد المسلمون عن دينهم, الذي هو في نظره لم يتعرض بعد للنقد المحايد! ,
ويقول: إن " الدراسات القرآنية؛ تعاني من تأخرٍ كبيرٍ بالقياس إلى الدراسات التوراتية والإنجيلية, التي ينبغي أن نقارنها بها باستمرار " ([16]) اهـ!!.
وبعد هذه الفرضية المتهافتة, الدالَّة على جهل " أركون " بدينه وكتابه, يبني عليها دعوى أوسع منها, فيقول: " وهذا التأخر يعكس التفاوت التاريخي، بين المجتمعات الإسلامية, والمجتمعات الأوربية أو الغربية. فالقرآن لا يزال يلعب دور المرجعية العليا المطلقة، في المجتمعات العربية والإسلامية. ولم تحلَّ محلّه أيّة مرجعيّة أخرى حتى الآن "، ثم يقول: " إنه المرجعية المطلقة، التي تحدد للناس ما هو الصَّح، وما هو الخطأ, ما هو الحق, وما هو الشرعي, وما هو القانوني, وما هي القيمة, الخ ... " ([17]) اهـ!!.
وهنا تبرز بعض مظاهر الزندقة، في هذا الغلو العلماني والغلواء المادية, التي يَتَبَطَّنُها هذا الرجل, فهو لا يكتفي بالمطالبة بتنحية القرآن الكريم فحسب, بل يدعو إلى نزع القداسة منه, وإزالة الهيبة من نصه بالكامل, بل يتجرّأ
على القول بأنّه: " ينبغي أن ننظر إلى القرآن من خلال مقارنته مع الكتب المشابهة له في الثقافات الأخرى ـ أي التوراة والإنجيل ـ, فالمقارنة هي أساس النظر والفهم " ([18]) اهـ!!.
هـ ـ نقض الدعوى:
بعد هذا العرض المجمل لموقف " أركون " من القرآن الكريم، يحسن أن أُقَرِّرَ الحقائق الآتية، نقضاً لهذه الدعوى:
1ـ إنَّ تقديسَ المسلمين للقرآن الكريم من أصول دينهم، والفرق ـ عندهم ـ بينه وبين سائر الكلام؛ كالفرق بين الخالق والمخلوق، إذ هم موقنون بصحة نسبته إلى علاّم الغيوب U، تلقَّوه صحيحاً، خلفاً عن سلف، ونُقِلَ إليهم بالتواتر
التام، قرناً بعد قرنٍ، لا ينفرد بذلك جيلٌ عن جيل، وهم يرونه رسالة الله إلى الثقلين الإنس والجن، من صدر البعثة النبوية، إلى آخر الزمان.
وقد ذمَّ الله سبحانه من لا يقدر هذا القرآن قدره حين يتلى عليه، فقال تعالى: ?فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ? ([19])، وامتدح عبادَه المؤمنين بقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا
¥