[هل ضاع شيء من القرآن بقتل القراء يوم اليمامة؟]
ـ[د. هشام عزمي]ــــــــ[12 Apr 2009, 04:16 م]ـ
[هل ضاع شيء من القرآن بقتل القراء يوم اليمامة؟]
بسم الله والحمد لله ..
يتناقل النصارى شبهة مفادها أن استفحال القتل بقراء القرآن يوم اليمامة كان من نتيجته ذهاب كثير من القرآن ..
ودليلهم هو ما أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف:
حدثنا عبد الله، حدثنا أبو الربيع قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال:
بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة، الذين كانوا قد وعوه، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب، فلما جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن ولم يوجد مع أحد بعدهم، وذلك فيما بلغنا حملهم على أن يتتبعوا القرآن، فجمعوه في الصحف في خلافة أبي بكر خشية أن يقتل رجال من المسلمين في المواطن معهم كثير من القرآن فيذهبوا بما معهم من القرآن، فلا يوجد عند أحد بعدهم، فوفق الله تعالى عثمان، فنسخ ذلك الصحف في المصاحف، فبعث بها إلى الأمصار، وبثها في المسلمين.
(أبو بكر بن أبي داود، كتاب المصاحف، حديث 81)
استشهد بهذا الأثر الكاثوليكي يوسف حداد في كتابه (الإتقان في تحريف القرآن) وعلق بقوله:
هذه هي قصة الجمع الأول للقرآن على أيام أبي بكر وبأمر من عمر وكما أوردتها كتب ومراجع القوم.
انتهى الاقتباس بعد تصحيحه لغويًا.
وكذلك البروتستانتي جون جيلكرايست في كتابه (جمع القرآن) وقال:
لا يمكن تجاهل كون هذا الحديث يستعمل أسلوب النفي بوضوح: "لم يعلم"، "لم يكتب"، "لم يوجد" تأكيد ثلاثي على أن هذه الأجزاء من القرآن التي كان يحفظها قراء اليمامة فقدت بدون رجعة.
قلتُ: هذا الأثر انفرد ابن أبي داود بتخريجه وهو باطل عقلاً ونقلاً ..
أما من جهة النقل فصاحب الأثر ابن شهاب الزهري يقول: بلغنا ..
فهذا الأثر من بلاغاته، ومعلوم أن بلاغات الزهري حكمها الضعف سندًا لأنه قد سقط من إسنادها اثنان أو أكثر ..
وبلاغات الزهري ليست بشيء كما هو الحال في مرسلاته؛ فهي شبه الريح – أي: لا أساس لها بمنزلة الريح لا تثبت ..
قال يحيى القطان:
مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما يقدر أن يسمي سمى؛ وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه
(ابن رجب، شرح علل الترمذي 1/ 284)
فإذا كان هذا حال المرسل؛ فكيف يكون حال البلاغ؟
أما من جهة العقل فهو باطل لعدة أمور:
أولها:
أن القراء الذين قتلوا إنما أخذوا القرآن عن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأمثالهما ..
وهؤلاء الأئمة كانوا باقين ..
أو أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قد أقرأه وحفظه عنه عثمان وأبي وعبد الله وغيرهم من الحفاظ ..
وهؤلاء لم يقتلوا فيمن قتل باليمامة ..
الأمر الثاني:
أنه لا يجوز في مستقر العادة أن يتفق الموت والقتل بأي وجه كان لجميع من كان يحفظ الذاهب من القرآن مع بقاء الحافظين لغيره ..
كأن يتفق قتل جميع من يحفظ سورة مريم، وبقاء من يحفظ سورة الكهف ..
وهذا لا يجوز في وضع العادة .. !
كما لا يجوز هلاك كل من يحفظ شعر جرير، وبقاء من يحفظ شعر الفرزدق ..
أو خروج المسلمين للجهاد والغزو فيقتل كل الحنابلة ويبقى الشافعية ..
أو انطلاق جيوش حلف الأطلنطي للحرب فيهلك جميع الإنجليز ويبقى الأمريكان ..
كل هذا باطل ممتنع في مستقر العادة ..
كذلك لا يجوز مقتل جميع من حفظ شيئًا من كتاب الله تعالى مع بقاء الحافظين لغيره ..
الأمر الثالث:
أنه لا بد في وضع العادة ومستقرها أن يتحدث الباقون من الأمة بأنه قد ذهب قرآن كثير ..
لأن علم ذلك لا بد أن يكون مشهورًا عند باقي الأمة وإن كانوا لا يحفظون الذاهب على ترتيبه ونظامه وتعينه ..
كما يعلم أهل كل بلد ما حولهم من البلاد وإن لم يزوروها أو يعاينوها ..
فترى سكان مدينة بنها يعلمون بوجود بني سويف وإلمنيا والأقصر ..
وقاطنو حي المعادي بالقاهرة يعلمون بوجود بولاق وإمبابة والكيت كات ..
كذلك يعلم طبيب الأمراض الباطنة عن تخصصات جراحة الأوعية الدموية أو جراحة العمود الفقري وإن لم يلم بها أو يحترفها ..
كذلك يعلم جميع المسلمين أن من حفظ من الروم إلى الناس لم يحفظ القرآن كله ..
وأن من حفظ عشرين آية من سورة البقرة لم يحفظها بأكملها ..
هذا لأنهم يعلمون القرآن بجملته وإن كانوا له غير حفاظ ..
وإذا كان الأمر كذلك وجب أنه لو سقط شيء من القرآن لمقتل من يحفظه أن يعلم الباقون من الأمة بذلك ..
وأن يتحدثوا به حديثًا لا يمكن معه الجهل بما ضاع من القرآن ..
ولو وقع ذلك لوجب أن يتسع ذكره وأن ينقل عنهم ويستفيض وينتشر ..
وفي علمنا عدم وقوع ذلك دليل على بطلان هذه الدعوى ..
وإذا كان ذلك كذلك، ثبت أنه لا يجوز عقلاً ضياع شيء من القرآن وذهابه على الأمة بوجه من الوجوه التي عددناها ووصفناها ..
وبالله التوفيق.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.
¥