[رؤية في شروط النهضة الحضارية للمسلمين]
ـ[مرهف]ــــــــ[31 Dec 2008, 07:09 م]ـ
[رؤية في شروط النهضة الحضارية للمسلمين]
بقلم: د. مرهف عبد الجبار سقا
نشر المقال في مجلة الحقيقة الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي بمكة في عددها الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
إن التقدم العلمي والرقي الحضاري ليس حكراً للون أو عرق أو شرق أو غرب كما يحلو للمستشرقين والعلمانيين تصويره وإشاعته بين الناس؛ ولكن التقدم العلمي هو نتيجة للعمل الهادف المنظم المؤسس على أسس سليمة صحيحة، ونشاط عملي دؤوب، فنحن لم نتخلف لأننا شرقيين أو عرب أو مسلمين، كما أن غيرنا لم يتقدم لأنه غربي أو صيني أو ياباني أو غير مسلم.
إن الناظر في تاريخ الأمم يجد لكل حضارة خطاً بيانياً متأرجحاً بين العلو والانخفاض حسب اجتهاد أصحاب هذه الأمة وكسلها، فكما أننا اليوم نرقب الزمن الذي نتفوق فيه حضارياً ونعيد أمجادنا السابقة، كذلك كانت أوربا أيام تخلفها تتذمر مما كانت عليه وتحاول الانتفاض من تخلفها واللحاق بغبار الحضارة الإسلامية. نعرف ذلك من الفقرات التي كتبها شاعر إيطاليا الكبير (بترارك) في غضون القرن الرابع عشر الميلادي مندداً في شعره ببن قومه مستنهضاً هممهم ومهيباً بهم يبث فيهم الثقة والعزيمة فيقول:
(ماذا؟ لقد استطاع شيشرون أن يكون خطيباً بعد ديمستن، واستطاع فرجيل أن يكون شاعراً بعد ميروس، وبعد العرب لا يسمح لأحد بالكتابة، لقد جاريناهم وتجاوزناهم أحياناً وبذلك جارينا وتجاوزنا غالبية الأمم، وتقولون: إننا لا نستطيع الوصول إلى شأو العرب، يا للجنون ويا للخيال بل يالعبقرية إيطاليا الغافية أو المنطفئة) ([1]).
ومنذ أكثر من قرن يبحث مفكرونا – وما زالوا – في أسباب تخلف العالم العربي وأسباب تقدم العالم الغربي وسرعة التطور التقني، ومما يؤسف في أكثر هذه الدراسات أنها مبتسرة، فهي تدرس هذه الظاهرة وكأن العالم بدأ من الثورة العلمية (عصر النهضة) في أوربا دون نظر فيما قبل ذلك ومقارنة الأسباب بالأسباب كما كان يفعل ابن خلدون في مقدمة تاريخه. إنهم يدرسون النهضة الأوربية ويعظمون شأنها وكأن الناس كانت قبل في عمى وجهالة لم تبصر النور حتى جاءت الثورة الكوبرنكية التي غيرت التصورات الخرافية عن الكون والحياة والإنسان التي كانت تفرضها الكنيسة والكتاب المقدس والآراء اللاهوتية على مواطنيها المؤمنين في أوربا ([2]).
يقول (توبي. أ. هف) في كتابه فجر العلم الحديث: (غير أننا ندرك في الوقت نفسه أن هذه الثورة ثارت في الغرب فقط وليس في البلاد الإسلامية أو الصين، وهذه الحقيقة تجعل الكثيرين يتساءلون عن العوامل الاجتماعية والثقافة الفريدة التي وجدت في الغرب ومكنت هذا التحول العظيم من الحدوث ... فمن المتفق عليه الآن بشكل عام أن التصور (الكوبيرنكي) الجديد للكون لم يقم على ملاحظات جديدة مذهلة أو أساليب رياضية جديدة لم تكن معروفة لدى العرب) ([3]).
ولكن كان ينبغي أيضاً طرح السؤال عن العوامل الاجتماعية والثقافية وغيرها التي سادت البلاد الإسلامية فلم تحدث فيها هذه الثورة العلمية بالشكل الذي حصل في أوربة، إذ لم ينقلب المسلمون على امتداد تاريخهم على دينهم كما في أوروبا؟ ثم نسأل أيضاً: لماذا نجد اليوم من يضرب بالدين عرض الحائط ويلفق الشبه حوله ويرده بحجة العلم؟ ولماذا سيطرت فكرة المناقضة بين الدين والعلم على عقول كثير من أبنائنا؟!.
لقد كان للبعثات العلمية الموفدة من البلاد العربية والإسلامية لأوربا، ورجوعها للبلاد الإسلامية مدهوشة ومنبهرة بمفاهيم عوراء كمفهوم العلم المحصور بالمادة والمحسوس، واعتبار كل مالا تدركه الحواس ولا يخضع للتجربة من الأفكار والاعتقادات خرافة، محملة بلوثة العداء بين العلم والدين واعتبار الإسلام كدين النصرانية في أوربة، لقد كان لهذه البعثات دوراً كبيراً في توسيع الهوة بين المسلمين ودينهم وتعزيز تبعية البلاد الإسلامية للغرب تحت راية الإصلاح والنهضة العلمية، على اعتبار أن العقل الغربي عقل متفتح وناقد وقادر على حل الدقائق والغوص بالخفايا، ومما زاد في تعزيز هذه التبعية الظروف السياسية التي ساعدت المستغربين في نشر الدعاية الغربية وغرس بذور اعتقاد الكمال في الغرب والتخلف في الشرق.
¥