وقد اعتمدت في هذا البحث على المصادر الأساسية والمباشرة للخطاب العلماني والغنوصي، وحرصت على أن أترك النصوص هي التي تتكلم، وأن يكون منهجي هو المنهج الوصفي الكشفي التركيبي حتى لا أُتَّهم بالتجني والتحامل.
وها هنا ملاحظتان منهجيتين أود أن ألفت النظر إليهما لعل ذلك يجنبني الكثير من النقد وسوء الفهم الأولى: أنني في هذه الدراسة لم أتعامل مع الخطاب العلماني كأشخاص وأفراد متمايزين مختلفين، وإنما تعاملت معه كمنظومة فلسفية تنتهي إلى جذور واحدة وتستند على أسس متقاربة، ولذلك تجنبت ذكر الأسماء غالباً في متن الدراسة، وأحلت إليها في الهوامش، ولذلك أيضاً كنت أنتقل من نص إلى نص دون اعتبار لقائله ما دام يتكامل مع غيره في داخل السياج الأيديولوجي العلماني.
لقد أراد البحث إذن أن يكشف عن الوحدة المتخفية وراء التنوع والاختلاف في المنظومة العلمانية، وأن يصل إلى الجذور الكامنة وراء الأغصان والفروع، فالتيارات والمدارس العلمانية الليبرالية والماركسية والحداثية والعدمية على الرغم من اختلافها إلا أنها تتفق إلى حد كبير كلما حاولنا الحفر في الأعماق للوصول إلى الجذور المادية والدنيوية التي تغذيها، ويكون الاتفاق أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالدراسات الإسلامية عموماً، وذلك بسبب التضاد المطلق بين هدف الرسالة الإسلامية وهدف العلمانية الغربية في التعامل مع أسئلة الإنسان الكبرى وقضاياه المصيرية.
والثانية: أنني اعتمدت على المصادر المترجمة التي تمكنت من الوصول إليها للباحثين الغربيين الذين احتاجت لهم هذه الدراسة. كما توجد في البحث بعض المصادر الثانوية لم يكن اعتمادي عليها كمصادر جوهرية وإنما كمكملات نفلية على مبدأ أن النافلة إن لم تنفع فلا تضر بعد أداء الفريضة.
وأحب أن أشير إلى أنني لا أعرف من كتب في هذا الموضوع بشكل مستقل، ولم يقع تحت يدي أي بحث يسلط الضوء على هذه العلاقة بين العلمانية والغنوصية.
وقد جاء هذا البحث في مقدمة ومبحثين وخاتمة:
المقدمة: وفيها الإشارة إلى إشكالية البحث ومنهجيته وخطته.
المبحث الأول: وشائج التواصل بين العلمانية والغنوصية الهرمسية.
المبحث الثاني: متاهة القراءة العلمانية " مراجعة نقدية ".
الخاتمة: وفيها الخلاصة والنتائج.
المبحث الأول
وشائج التواصل بين العلمانية والغنوصية ([4]) الهرمسية
المطلب الأول – العلاقة بين الهرمينوطيقا والغنوصية:
"" الهرمينوطيقا هي فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي "" ([5]). كما "" تعني تقليدياً فن تأويل النصوص المقدسة الإلهية أو النصوص الدنيوية البشرية، وهي كذلك مساوية للتفسير أو للفلولوجيا بما هي تفسير حر في أو نحوي وصرفي لغوي لبيان معاني الألفاظ والجمل والنصوص، وهذا ما يعرف بالتفسير اللفظي "" ([6]).
وهو مصطلح مستخدم في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني ([7]).
هذا هو المعنى التقليدي للهرمينوطيقا، ولكن مع تطور نظرية النسبية أصبحت الهرمينوطيقا تُعنى بفن الفهم، وهذا المعنى " فن الفهم " هو الذي سيؤسس له شلاير ماخر 1768 – 1834 م ([8]) الذي يُعد أبو التأويلية الحديثة، وأصبح فن الفهم أو فن التأويل يتناول ليس النصوص المقدسة فقط بل تعدى ذلك إلى النصوص البشرية ذات المضمون الطبيعي اليومي ([9]).
ومعنى كونها تجاوزت الكتب المقدسة إلى الكلام البشري اليومي أنها أصبحت تُخضع كل شيء للتأويل، وتعتبر التأويل هو الأصل في الكلام، وبذلك تكون الهرمينوطيقا نمطاً من أنماط القراءة والتأويل للنصوص والتراثات الفكرية عموماً وهو ما سمي الهرمينوطيقا العامة ([10]).
في مقابل الهرمينوطيقا العامة التي اهتمت بتفسير الوجود تقوم هرمينوطيقا خاصة تركز بالذات على تفسير النصوص، ومن أبرز ممثليها بول ريكور ([11]) [ولد سنة " 1913م] الذي يُعوِّل كثيراً على التفسير الرمزي، وهو ما سيُعتَبر أساساً تقوم عليه الهرمينوطيقا، إذ يَعتبر ريكور الرمز وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه من معنى، ومعنى ذلك أن يقول القائل شيئاً وهو يعني شيئاً آخر في آن واحد، وبغير أن تتعطل الدلالة الأولى وهو ما يسمى" بالوظيفة الأليغورية " للغة بالمعنى الحرفي للكلمة ([12]). وهذه الطريقة لجأ إليها بولتمان (
¥