تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا من الناحية النظرية المبدئية، أما من الناحية التاريخية الواقعية فأول ما نتريث إزاءه هو ما نقله شمعون من "صحيح البخارى"، ونَصُّه أنه عليه الصلاة والسلام "لقي زيد بن عمرو بن نُفَيْل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها. ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذُكِر اسم الله عليه"، إذ هناك رواية أخرى للحديث تقول إنه صلى الله عليه وسلم قد "لقي زيدَ بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه". والفرق بين الروايتين كبير كما ترى. وقد يُفْهَم من الروايتين، إذا ضممناهما معا، أن القوم كانوا قد قدموا إلى رسول الله ذلك الطعام فرفضه، ثم بدا له أن يعرضه على زيد، فرفض زيد كذلك، فاتفقت إرادتاهما على عدم الأكل منه.

وفى "فتح البارى" أن العلماء قد فسروا الأمر "بأن القوم الذين كانوا هناك قدموا السفرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقدمها لزيد، فقال زيد مخاطبا لأولئك القوم ما قال". ويؤكد هذا ما ورد فى حديث ثالث، إذ رُوِىَ "أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكارا لذلك وإعظاما له".

كما أن الرواية الأولى تخلو مما يدل على أن اللحم كان من أضحية قدمها النبى إلى وثن من الأوثان، بل كل ما هنالك أنه عليه السلام كان معه لحم فقدمه إلى زيد، فرفض زيد أن يأكل منه، وهذا كل شىء. وفضلا عن ذلك قد يكون معنى كلام زيد أنه لا يرفض بالذات الأكل من السفرة التى قدمها النبى وزيد بن حارثة له، بل يعرض شروطه فى الأكل حتى إذا كان الطعام المقدم له متحققة فيه هذه الشروط أكل منه، وإلا فلا. وأتصور أن الأخير هو أقوى الاحتمالات لأنه لا يوجد ما يدل على ما ذهب إليه سام شمعون لا من قريب ولا من بعيد.

فكما هو واضح قد أورد شمعون ما يظن أنه موصِّله إلى ما يريد من تشويه صورة النبى عليه السلام، وتجنَّب عن عمد وسبق إصرارٍ الأحاديثَ الأخرى النافية أكله صلى الله عليه وسلم من لحوم الأنصاب. ولكن فلنسايره ونقول معه إنه صلى الله عليه وسلم قد كان يأكل منها، فماذا فى ذلك؟ لقد قلنا إن العرب لم يكونوا يحرّمون هذا النوع من الطعام، إذ لم يكن لهم دين ينهاهم عن ذلك، فكيف ننكر على محمد ما كان سائر قومه يأكلونه؟ ثم هل أكله صلى الله عليه وسلم من هذا اللحم معناه بالضرورة أنه كان يعبد الأوثان؟ الواقع أن من الصعب امتناعه هو أو أى إنسان آخر من بنى قومه بسهولة ودون وقوع باعث له على النظر فى ذلك عن أكل هذا اللحم. وفى "فتح البارى" عن الخطابى: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل مما يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه لأن الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلا بعد المبعث بمدة طويلة".

وحتى لو أخذنا بحديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما، وقد أورده ابن حجر فى "فتح البارى، ونصه: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من مكة وهو مُرْدِفِي، فذبحنا شاة على بعض الأنصاب فأنضجناها، فلقينا زيد بن عمرو ... فقال زيد: إني لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه"، فليس معناه بالضرورة أنهما قد ذبحا الشاة باسم وثن من الأوثان، بل كل ما يدل عليه هو أنهما ذبحاها على نُصُبٍ من الأنصاب، والأنصاب هى الحجارة التى كانت قريش تذبح عليها عند الأوثان، فهى مواضع مهيأة لذبح الذبائح عليها. إنها فى هذا كالمسالخ هذه الأيام. والمسلمون فى البلاد الأوربية مثلا يمكنهم دون أى حرج أن يذبحوا حيواناتهم فى نفس

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير