وإني أقول لـ: (صلاح أبو عرفة) إن قصدت بالشاذ ما ذكره أهل العلم، ومنهم الإمام الشافعي بأنَّه: (أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس)، فليس ما حكمت عليه بالشذوذ يصلح لحجَّتك، فالإمام الشافعي قال عَقِبَ ذلك: (وليس من ذلك أن يروي ما لم يروِ غيره) كما زعمت أنَّ صاحب هذا الحديث روى ما لم يروِ غيره، أو أنَّ هذا الثقة خالف رواية الثقات، فليس الشاذ يتطابق مع ما ذكرته، وإن قصدت أنَّه شاذ بمعنى مطلق التفرد، فلم يعلَّ علماء الإسلام الحديث بمطلق التفرِّد هكذا وبدون أي تفصيل!
وعلى فرض التسليم بتفرِّد سعيد بن أبي هلال، فإنَّنا نعلم أنَّ أهل العلم لا يردون سائر التفردات ولا يقبلونها بإطلاق، وإنَّما الأمر كما قال الإمام ابن رجب رحمه الله: (لهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه).
وتأسيساً على ذلك فلا حجَّة لمن ضعَّف هذا الحديث ولا أعرف أحداً قال بذلك سوى الإمام ابن حزم، حيث قال إن في سنده سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف، فكلامه مردود منقوض وذلك لأمور:
أولاً: أنَّ ابن حزم متأخر عن أهل العلم الذين تكلموا في سعيد بن أبي هلال، فقد توفي ابن حزم في سنة 456هـ أي في القرن الخامس الهجري، وهنالك الكثير من العلماء المتقدِّمين الذين عرفوا حال سعيد بن أبي هلال أكثر من ابن حزم، ولم يقولوا فيه ما قاله ابن حزم!
ثانياً: أنَّ ابن حزم في تضعيفه وتجهيله للرجال لا يغترُّ بكلامه حينما يتحدَّث عنهم فهو متسرِّع في الحكم على الرجال كما هو معلوم، حتَّى إنَّه جهَّل بعض الأئمة، بل قد يجهِّل ويضعِّف كذلك بدون بيِّنة أو حجَّة.
ثالثا: بعد البحث والاستقصاء والتفتيش عن حال سعيد بن أبي هلال وجدناه ثقة ثبتاً، لم نجد من حكم بضعفه، فلقد وثَّقه ابن سعد، وابن خزيمة، والدار قطني، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وابن حبَّان، وقال عنه الإمام أحمد: مدني لا بأس به، وقال عنه أبو حاتم: لا بأس به، ووثقه ابن رجب، بل حكى ابن حجر الاتفاق على الاحتجاج به وأنَّه لا يلتفت إلى من ضعَّفه، وكأنَّه يعتبر رأي ابن حزم شاذ وخارج عن النسق الصحيح.
رابعاً: حديث عائشة: (لأنَّها صفة الرحمن) لم يتعقبه أحد من علماء الإسلام بل قد تواتروا على تصحيحه، ونحن نعلم أنَّ الإمام البخاري انتقى أحاديث صحيحه انتقاءً، وكان شرطه في قبولها محل تشديد وتريث، حتَّى إنَّه ما كان يضع حديثاً إلاَّ ويستخير الله قبل وضعه في صحيحه، وهذا الحديث المذكور منها، فهو محل قبول الأمَّة، ولم يتعقبه العلماء برد، فقد ذكر ابن رجب هذا الحديث، واحتج به على مسائل عدَّة ولم يتطرق لنقده، وكذلك الذهبي روى هذا الحديث ولم يتعقبه كعادته في تعقب التفردات والتنبيه على بعض الأوهام، ونقله ابن كثير في تفسيره عن البخاري ولم يتعقبه، والبيهقي ألَّف كتاباً في الصفات نصر فيه الأشاعرة في عدَّة مواضع وخالف أهل السنَّة والجماعة؛ لكنَّه ذكر هذا الحديث ولم يتعقبه بشيء، وكذلك المنذري أورد الحديث معزواً للبخاري ومسلم والنسائي ولم يتعقبه بتفرد ولا غيره، ونحوهم النووي ذكره في رياض الصالحين، ولم يتكلَّم فيه، وهذا كله يدل على تلقي أهل العلم للحديث بالقبول.
أفنصدق هؤلاء الأئمة الأثبات وهم أهل التخصص أم نصدق صلاح أبو عرفة الذي لا ناقة له ولا جمل في علم الحديث!!
إنَّ من ردَّ هذا الحديث فهو كما لو جاء شخص وردَّ أحاديث ثابتة في البخاري كحديث: (إنَّما الأعمال بالنيات) وقال إنَّ هذا الحديث شاذ بسبب التفرد، ولأنَّ فيه محمد بن إبراهيم التيمي، وأنَّ الإمام الذهبي نقل عن الإمام أحمد أنَّه قال عن محمد بن إبراهيم التيمي: في حديثه شيء يروي أحاديث مناكير أو منكرة.
ثمَّ زاد البليَّة على كلامه فقال: إنَّ هذا الحديث معلول لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قاله على المنبر، ولم يروه غير الصحابي الجليل عمر بن الخطَّاب، فكل هذه قوادح في الحديث، تدل على بطلانه!!
فمن قال هذا الكلام فإنَّ كلامه يعدَّ أضحوكة بين علماء الحديث، فظاهره تأصيل وباطنه خبل يدل على العقل الكليل، والذي فضح صاحبه على رؤوس الأشهاد لأنَّه تحدَّث في غير فنِّه فأضحك الناس على عقله، وأتى بالعجائب!!
¥