تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجنى: "قال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ" والتى يصعب علىّ أن أتصورها من شِيَم الأدب الجاهلى. ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟ إن الجن عالم خفىٌّ لا نعرف نحن البشر عنه شيئا سوى ما جاء فى الوحى كما هو الحال فيما أنبأنا به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئا منه كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربى، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السَّجْع والجِنَاس وسائر المحسِّنات البديعية أيضا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم فى سُورَتَىِ "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بنى يعرب، إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التى لا ندرى نحن البشر عنها شيئا.

على أن القضية لمّا تنته عند هذا الحد، إذ نقرأ قوله: "كان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادي نائما إذ هَوَى هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أَجَل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديقٌ) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكّامًا على الحُكّام، يَذْبُرون ذا رونقٍ من الكلام، ليس بالشِّعر المؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أى مُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسول من مُضَر، من أهل المَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأوضحَ نهجًا قد دَثَر، فيه مواعظُ لمن اعتبر، ومعاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآى الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين (أى الحجارة السُّود)، والنَّفَر اليمانين، أهل الماء والطين". ومعنى هذا الكلام أن خنافرا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرف بمجىء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسول الذى جاء به والكتاب الذى نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئا من ذلك بالمرة. فكيف يسوغ فى العقل هذا؟ وبعد هذه الجولة هل بقى فى ضمير القارئ شك فى تهافت ما قاله نصر أبو زيد عن استغلال القرآن لسجع الكهان فى توطيد دعائمه فى نفوس العرب ثم انقلابه عليهم بعد أن استقرت له الأوضاع؟

ومما تعرض له د. أبو زيد فى كتابه: "نقد الخطاب الدينى" رواية سلمان رشدى المسماة بـ"الآيات الشيطانية". ففى الطبعة الأولى للكتاب نراه يؤكد أنه لن يقوم بالحكم على القيمة الأدبية لتلك الرواية لأن هذا أمر له متخصصوه، بما يعنى أنه ليس منهم (انظر ص74 من الطبعة الثانية، وهى الطبعة المتاحة لى)، مع أنه فى مقدمة الطبعة الثانية من ذات الكتاب نجده ينسى هذا ويصدر حكما على الرواية مؤكدا أنها تافهة ليست ذات قيمة أدبية (انظر ص57 - 58). ثم زاد فأخرج علماء الدين من نطاق القدرة على تقييمها، واتهم د. عبد الصبور شاهين بالعجز عن ذلك مع أنه أستاذ جامعى مثله بل بمثابة أستاذه، وأقرب إلى التعامل مع النصوص الأدبية منه، إذ هو متخصص فى اللغة، أما أبو زيد ففى الدراسات الدينية. وعلى كل حال فمعروف أن سبب غضب علماء الدين والمسلمين عموما من الرواية ليس قيمتها الأدبية، بل ما فيها من فحش ضد الإسلام والله والرسول وأمهات المؤمنين. ويكفى ما قيل فيها بتفصيل شنيع عن بيت الدعارة المسمى بـ"الحجاب" بمومساته التى يتسمين: عائشة وحفصة وزينب ... ، أى بأسماء أمهات المؤمنين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير