تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يعلن فيه تمسكه دون قومه بدين إبراهيم يقول:) هل كان هذا الشيخ الصارخ فى البرية داعيا إلى دين إبراهيم صوتا فى فلاة أم كان تجسيدا لنزوع ما لاتجاه جديد فى رؤية العالم فى هذه الثقافة؟ وهل كان محمدٌ الإنسانُ ابنُ واقعه ومجتمعه إلا جزءًا من هذا الاتجاه الجديد النقيض للاتجاه السائد فى المجتمع والفكر على السواء؟

لكن لماذا العودة إلى دين إبراهيم؟ ولماذا لم يكن فى اليهودية والمسيحية ما يكفى للإجابة عن هذه الأسئلة الحائرة التى كانت تعذب هؤلاء الأفراد من العرب؟ الحقيقة أن هذه الأسئلة لم تكن مجرد صرخات فى فلاة، بل كانت تجسيدا لنزوع ما لاتجاه جديد فى رؤية العالم وضرورة تغييره. وكانت هذه الأسئلة بمثابة البحث عن "أيديولوجية" للتغيير، ولم يكن لهذا البحث أن يتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية، وهى آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة. لقد كان البحث عن دين إبراهيم فى حقيقته بحثا عن الهوية الخاصة للعرب، وهى هوية كانت تهددها مخاطر عدة. أهم هذه المخاطر هو الخطر الاقتصادى النابع من ضيق الموارد الاقتصادية التى تعتمد على المطر والعشب من جهة، وعلى التجارة من جهة أخرى. وقد أوشكت حياة الصراع والتناحر والحروب بين القبائل، وكلها حروب وصراعات ذات جذور اقتصادية، أن تؤدى إلى القضاء على الحياة ذاتها. وزاد من حدة هذه الأزمة واستعار خطرها أن الجزيرة العربية كانت محاصرة بالقوى الأجنبية من كل جانب ...

وسط هذه المخاطر كان ثمة إحساس بضرورة التوحد: التوحد على المستوى الداخلى لضمان بقاء الحياة فى هذه الظروف الاقتصادية الخطرة، والتوحد لمواجهة الخطر الخارجى الذى أوشك على القضاء على الهوية. وقد عبر هذا الإحساس الغامض عن نفسه فى مجموعة من التطورات أهمها بالنسبة لتحقيق الهدف الأول تحديد مجموعة من الشهور يحرم فيها القتال. وقد كان ذلك أقرب إلى الاتفاق للحفاظ على وسائل الإنتاج من الدمار الكامل. فكانت التجارة تزدهر فى هذه الشهور، وتقام الأسواق والاحتفالات الدينية. وكثيرا ما كانوا يغيّرون هذه الشهور أو يؤجّلون بعضها بالنسىء، الذى نهى عنه القرآن بعد ذلك، طبقا لمصالح القبيلة ذات السطوة والسيطرة. ولمواجهة الخطر الثانى، خطر العدو الخارجى، فمما له دلالته فى هذا الصدد أن القبائل العربية استطاعت لأول مرة أن تتوحد لمحاربة الفرس وحققت انتصارا عليها فى واقعة ذى قار. وهو انتصار تجاوبت أصداؤه فى أركان الجزيرة العربية كلها، واحتفظ لنا الشعر حتى الآن بهذه الأصداء. وهذه الواقعة تؤكد ذلك الإحساس الغامض بضرورة الوحدة لمواجهة خطر العدو الخارجى.

إذا كانت هذه هى الأخطار فلا بد أن تكون "الأيديولوجية" التى كان يبحث عنها هؤلاء الأفراد من العرب أيديولوجية تحقق الهدفين: مواجهة الصراعات الداخلية وعوامل التفتيت بكل ما يؤدى إليه ذلك من سيطرة الأقوى، ومواجهة الخطر الخارجى المتمثل فى أعداء العرب من الفرس والروم. ومن الطبيعى ألا تحقق المسيحية، وهى أيديولوجية مطروحة، أحد هذين الهدفين، فقد كانت دينا غازيا معتديا، ولم يكن لليهودية أن تجتذب العرب، وقد كان أحبارها يتَعَالَوْن عليهم وينظرون إليهم بوصفهم بدوا رعاة. هذا بالإضافة إلى أن اليهودية دين مغلق عنصرى لا يتقبل الوافدين الجدد. كانت الأيديولوجيتان الدينيتان المطروحتان غير ملائمتين لتحقيق أهداف ذلك الوعى أو الإحساس الغامض الذى كانت تحكمه صرخات هؤلاء المتحنفين أو المتحنثين ...

كان البحث عن "دين إبراهيم" إذن بحثا عن دين يحقق للعرب هويتهم من جهة، ويعيد نظيم حياتهم على أسس جديدة من جهة أخرى. وكان الإسلام هو الدين الذى جاء يحقق هذه الأهداف. وليس من قبيل التأويل الأيديولوجى أن نقول إن الإسلام بهذه المثابة، ومن حيث هو دين يرد نفسه للحنيفية ملة إبراهيم، كان تجاوبا مع حاجة الواقع، وهى الحاجة التى عبر عنها الأحناف، وكان محمد واحدا منهم. وليس الحديث إذن عن محمد بوصفه المتلقى الأول للنص حديثا عن متلقٍّ سلبىّ، بل حديث عن إنسان تجسدت فى داخله أحلام الجماعة البشرية التى ينتمى إليها، إنسان لا يمثل ذاتا مستقلة منفصلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسدت فى أعماقه أشواق الواقع وأحلام المستقبل" (ص67 - 74).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير