تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق، وما خاب من استشار ... إلخ. فهنا نجد أن فاعلية النصوص هى فاعلية غير مباشرة، بمعنى أنها لا ترسم لنا تفصيلات الطريق، بل تكتفى بالإشارة إلى الاتجاه حتى لا نتخذ طريقا أخرى لا توصلنا إلى ما نريد، مع إمدادنا بالتوجيهات التى تكفل لنا عدم الخروج عن الطريق.

فأما بالنسبة إلى الأمثلة التى لا توجد فيها نصوص بحيث يكون للصحابة مندوحة عن قبول رأى الرسول، فمنها ما كتبه ابن هشام فى "السيرة النبوية" عما حدث قبل معركة بدر، إذ استجاد النبى عليه السلام موضعا فنزل عنده متصورا أنه هو الموضع الإستراتيجى الناجع، بيد أنه كان لبعض الصحابة رؤية أخرى على ما يخبرنا النص التالى: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم (أى يبادر قريشا) إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به. قال بن إسحاق: فحُدِّثْتُ عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل: أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم تغوّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُوِّرَتْ، وبني حوضا على القليب الذي نزل فَمُلِئَ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية". فمراجعة الحباب للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه لم تتم، كما رأينا، إلا بعد أن تيقن من خلال سؤاله للرسول نفسه أن اختياره صلى الله عليه وسلم لذلك الموضع لم يكن مبنيا على وحى نزل بشأنه، بل هو اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام. ولأنه يعرف من القرآن أن الشورى قيمة كبيرة من قيم الإسلام لم يتردد لحظة واحدة عن إبداء رأيه فى ذلك الاختيار، ونزل النبى على مشورته، وكانت مشورة مباركة.

أما على الضفة الأخرى فها هو ذا نص يرينا أنه حين يكون هناك وحى من السماء فإن النبى والصحابة لا يملكون إلا النزول على هذا الوحى. ومرة أخرى نفتح "السيرة النبوية" لابن هشام، ولكنْ هذه المرة على غزوة الحديبية وما وقع عقب وثيقة الصلح، التى رأى عمر بن الخطاب أن فيها إجحافا بالمسلمين: "فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله. لن أخالف أمره، ولن يضيعني! قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رجوت أن يكون خيرا". فانظر كيف ظن عمر فى البداية أن الأمر ما هو إلا اجتهاد من النبى عليه السلام لم ينزل فيه وحى. لكنه حين عرف أن النبى لم يفعل شيئا من تلقاء نفسه، بل كان الأمر وحيا من الله له، تراجع على الفور وشعر بالذنب وظل فترة طويلة يصوم ويصلى رجاء أن يغفر الله له هذا الموقف، الذى لم يقصد به مع ذلك إلا وجه الخير.

ولا يكتفى نصر أبو زيد بهذا، بل يزيد فيزعم أن تدشين الشافعى للسنة المحمدية مصدرا من مصادر التشريع يحولها من لانص إلى نص. وهو حين يقول هذا يقوله على سبيل الاستنكار، إذ لا يرى للسنة النبوية المطهرة مدخلا فى عملية التشريع (انظر ص31 - 32 من كتاب "الإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية"/ سينا للنشر/ 1992م). فكيف بالله يصح هذا، والسنة فى الجانب الأكبر منها هى نصوص قالها النبى عليه السلام؟ بل لقد تحولت أفعاله أيضا إلى روايات يتناقلها المسلمون، فأصبحت هى أيضا بذلك نصا. فكيف يصفها بأنها لانص؟ وهل الشافعى هو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير