تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ففي قوله تعالى (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر 27 - 30] ثناء وتطمين وتكريم من الله تعالى لهذه النفس المطمئنة إلى طريقها ونهايتها بسبب إيمانها وما قدمته من العمل الصالح، وحسبها أن يستقبلها الله راضيا عنها راضية عنه، فإذا جاء أمر الله تعالى لها بالدخول كان نهاية التكريم أن تكون هذه النفس في الصدر من هؤلاء العباد يحيطون بها ويحتفون بوفادتها وليست في الحاشية من هؤلاء العباد كما تدل عليه كلمة المصاحبة الموحية بإتباعهم لهم وإلحاقهم بهم، ولعل في تقديم دخولهم في هؤلاء على دخولهم الجنة ما يؤكد هذا التكريم بما يدل على أنهم لم يسبقوا بدخول الجنة، وكأن السابقين من عباد الله الصالحين في انتظارهم قبل دخولها.

ومثله قوله تعالى في دعاء سليمان عليه السلام (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل 19] فإن منزلة سليمان عليه السلام ومقام الضراعة والرجاء يجعلانه في الصدر من عباده الصالحين وليس مصاحبا لهم ملحقا بهم.

أما قوله تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا) [الأعراف 37 - 38]. فإن السياق ينبض بالإهانة والتحقير لهؤلاء الكافرين، والسخرية منهم، وممن أشركوهم مع الله آلهة، وتعدية الفعل (ادخلوا) بحرف الظرفية بقوله (ادخلوا في أمم) يوحي بأن المخاطبين يتوارون في غمار الأمم التي كفرت بربها وألقى الله بها في نار جهنم، وهو غني عنهم وعن عبادتهم /10/.

ولا يخفى أن التعبير القرآني (ادخلوا في أمم) يوضح شدة عذابهم، وعظيم حقارتهم، فهم في وسط تلك الجموع يقاسون العذاب، والكل يراقبهم ويراهم، وأن عذابهم سيكون على تلك الصفة يوم القيامة مظروفين في وسط الأمم للدلالة " على كثرة الكافرين وحقارة شأن الداخلين فيهم " /11/. ولو عبر القرآن بكلمة المصاحبة (مع) بدلا من حرف الظرفية لدل التعبير على أن هؤلاء المعذبين دخلوا النار في صحبة ومعية أمم كثيرة، والمصاحبة في العذاب ربما تخففه لا تزيده.

وإذا كان حرف الظرفية - كما رأيت - قد نشر على سياقه من المعاني التي اقتضاها السياق والمقام، فإن لكلمة المصاحبة ظلالا وأسرارا لا يستطيع أن يؤديها حرف غيره كما في قوله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ) [يوسف 36] فدلت كلمة المصاحبة (مع) على أن دخول هذين الفتيين السجن كان بمعية يوسف مصاحبين له ملحقين به، ولو رمت حذف (مع) من هذه الآية الكريمة فلن تجد هذه المعاني التي أومأت إليها كلمة المصاحبة من أن دخول الثلاثة السجن في آن واحد /12/.

ونشرت الباء بدلالتها على الإلصاق والملابسة على فعل الدخول حين تعدى بها معنى الجماع في قوله تعالى (وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) [النساء 23]، يقال دخل بعروسه: جامعها، ومعنى دخلتم بهن: جامعتوهن /13/، وهو كناية عن الجماع، وقد أعانت الباء على تحقيق الكناية في قوله (دخلتم بهن) بما لا يمكن أن تنهض به الحقيقة كما قدرها الزمخشري بقوله " يعني أدخلتموهن الستر " /14/ مما يدل على قدرة هذه اللغة على الوفاء بآداب الإسلام، وما يوجبه من الترفع عن التصريح بما يستحسن الكناية عنه، إلى جانب ما جسدته الباء بما فيها من اللصوق والملابسة من الدلالة على شدة الارتباط والقرب الروحي، والمخالطة النفسية بين الزوجين، بما يحقق الغاية من قوله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) [الروم 21] /15/.

انتهى.


/1/ ستقوم الدراسة باختيار بعض الأفعال مراعية ما بينها من تناسب أو تضاد.
/2/ انظر المفردات ص 309.
/3/ التحرير والتنوير 2/ 275.
/4/ الاقتضاب في شرح أدب الكتاب 2/ 282 وما بعدها.
/5/ انظر الكشاف 1/ 417.
/6/ انظر المعجم المفهرس 253 وما بعدها وسورة يوسف الآية 88، 99.
/7/ انظر الكشاف 1/ 353 والتفسير الكبير 5/ 324 وتفسير المنار 2/ 256.
/8/ انظر نظم الدرر 3/ 179 والتحرير والتنوير 2/ 277 وتفسير المنار 2/ 256.
/9/ الأزهية ص 268 وراجع التفسير الكبير 14/ 77 والبحر المحيط 3/ 295.
/10/ انظر من أسرار حروف الجر ص 155 بتصرّف يسير.
/11/ المرجع السابق ص 156.
/12/ راجع نظم الدرر 10/ 80.
/13/ انظر معجم ألفاظ القرآن الكريم 1/ 397 وما بعدها.
/14/ الكشاف 1/ 517.
/15/ الروم 21 وانظر من أسرار حروف الجر ص 174 وما بعدها.
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير