ـ[البحر الرائق]ــــــــ[03 Apr 2006, 05:27 م]ـ
الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لانبى بعده،
أما عن الحكمة فى نزول القرآن منجما فقد ذكر العلماء منها حكما كثيرة لغل أهمها:
1 - تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه و سلم:و هذا ما تدل عليه الآية الكريمة (و قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا)، وكان القرآن ينزل على قلب النبى صلى الله عليه و سلم فيجد و يجتهد فى إبلاغه للناس و كان يحزن و يشقى النبى بعناد القوم له و تكذيبهم إياه حتى قال الله (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) فكان الوحى ينزل على النبى صلى الله عليه و سلم فترة بعد فترة بما يثبت قلبه على الحق و يشحذ عزمه للمضى قدما فى طريق دعوته.
و حينما يشتذ إيذاء قومه له و تكذيبهم إياه يتنزل عليه القرآن الكريم بقصص الرسل الذين سبقوه و يحكى له معاناة الرسل قبله و تكذيب قومهم لهم و أنه ليس بدعا فى هذا الأمر (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات و الزبر و الكتاب المنير) و يأمره القرآن بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) بل صرح الله سبحانه و تعالى من حكمة قص قصص الأنبياء على النبى فقال جل شأنه (و كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك).
و هكذا كانت آيات القرآن الكريم تتنزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم تباعا تسلية له بعد تسلية، و عزاء له بعد عزاء، حتى لا يأخذ منه الحزن مأخذه و لا يستبد به الأسى، و لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلا، فله فى قصص الأنبياء أسوة، و فى مصير المكذبين سلوى، و فى العدة بالنصر بشرى، وكلما عرض له شىء من الحزن بمقتضى الطبع البشرى تكررت التسلية، فثبت قلبه على دعوته، و اطمأن إلى النصر.
2 - تيسير حفظه وفهمه: فلقد نزل القرآن فى أمة أمية لا تعرف القراءة و الكتابة - فى الغالب - بل سجلها فى تلك الذاكرة الحافظة التى أنعم الله عليهم بها، فما كانت الأمة لتستطيع حفظ كتاب الله لو نزل جملة واحدة و ما كانت لتتدبر معانيه على الوجه الأكمل، و لكن كانت الآيات تنزل على النبى فيحفظها الصحابة و يفهمونها و يتدبرون معانيها، بل أصبح هذا هو أسلوب الصحابة فى تعليم التابعين، فعن أبى نضرة قال: كان أبو سعيد الخدرى يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشى، و يخبر أن جبريل كان ينزل بالقرآن خمس آبات خمس آيات،و عن عمر قال: (تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبى صلى الله عليه و سلم خمسا خمسا) رواه البيهقى فى شعب الإيمان.
3 - مسايرة الحوادث و التدرج فى التشريع: فما كان الناس ليسلس قيادتهم للدين الجديد لولا أن القرآن عالجهم بحكمة، فلم ينزل تحريم الزنا فقط بل نزل تحريم الخطوات الداعية له، و لم ينزل تحريم الخمر مرة واحدة بل نزل على دفعات و هو الأمر الذى حبب القرآن إلى النفوس، و فهمه لطبيعة البشر و كيفية اقتيادهم و جعلهم يقبلون على أحكام الدين بحب و لو عالجهم بقسوة لنفر الناس من هذا الدين الجديد لا سيما مع تأصل بعض الصفات الجاهلية فيهم كشرب الخمر مثلا و لكن انظر الى التدريج فى التشريع و أثره فى تحقيق الأغراض المنشودة.
4 - التحدى و الإعجاز: وقد قال الله تبارك و تعالى (و لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا) أى و لا يأتونك بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة إلا أتيناك نحن بالجواب الحق و بما هو أحسن معنى من اسئلتهم، وتحدى الله تعالى العرب بالإتيان بمثله مع نزوله منجما أبلغ فى تحديهم فى الإتيان بمثله لو نزل جملة واحدة.
5 - الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد: لعلك تتساءل كيف يكون نزول القرآن منجما دليلا على أن القرآن تنزيل من حكيم حميد؟ و سيكون ردى: انظر - يرحمك الله - إلى هذا القرآن الذى نزل على مدى ثلاث و عشرين سنة تنزل الآية تلو الآية بل تنزل على فترات متباعدة و مع ذلك تجده محكم النسج، دقيق السبك، مترابط المعانى، رصين الأسلوب، متناسق الآيات و السور كأنه عقد فريد نظمت حباته بما لم يعهد له مثيل فى كلام البشر (كتاب أحكمت أياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) و لو كان هذا القرآن من كلام البشر قيل على فترات متباعدة لوجدت فيه من الخلل ما لا يحصى و لوقع فيه التفكيك و الانفصام و خلى من التوافق و الانسجام (و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا).
هذا و لا استطيع أن أحصى الحكمة من مراد الله تعالى بنزول القرآن منجما، لكن هذا ما من الله تعالى على به، فله الحمد و الشكر على نعمه التى لا تحصى و لا تعد، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــ
اعتذار: وقع منى خطأ فى المشاركة السابقة فى الصفحة نفسها فى كتابة الآية (و قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن) فأستغفر الله، و أرجو من الأخوة التصويب، و عفا الله عنى و عنكم.
ـــــــــــــــــــــ
* استفدت كثيرا فى المباحث السابقة من كتاب (قراءات فى علوم القرآن والحديث) للدكتور أحمد عبد الرحمن النقيب
¥