فمعنى تحزيب القرآن أن يجعل المسلم لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه بحيث يختم القرآن في كل شهر، أو عشرين أو خمسة عشر، أو عشر، أو سبع، أو غير ذلك ([2]).
وتحزيب القرآن يعتبر في هذا الزمان من السنن المهجورة، بل المجهولة عند كثير من طلبة العلم فضلاً عن عامة الناس، في حين كان الأمر متواتراً، ومعلوماً عند السلف، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلاَّ وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا ([3]).
وقد ذكر ابن عبد البر في النقل السابق عنه بعض الأحاديث والآثار المتعلقة بتحزيب القرآن، وبيّن أنها تدل على أن التمهل في القراءة والتدبر فيها أولى وأفضل من الهذّ والإسراع في القراءة بدون تدبر وتفهم.
وفيما يأتي أذكر مسائل مهمة تحتاج إلى إيضاح وبيان ولها تعلق بتحزيب القرآن:
المسألة الأولى: في كم يقرأ القرآن؟:
في كتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري باب: في كم يقرأ القرآن، وقول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، ذكر البخاري - رحمه الله - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرإ القرآن في شهر} قلتُ: إني أجد قوة، حتى قال: {فاقراه في سبع، ولاتزد على ذلك} ([4]).
وفي رواية في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: {فاقرأه في كل سبع ولاتزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ولزَوْرِكَ عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً} ([5]).
فهذا الحديث ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع، كما ذكر ذلك ابن كثير في فضائل القرآن ([6]).
وجاء في أحاديث أخرى ما يدل على إقرار من قرأ في ثلاث، ومنها ما ذكره ابن كثير في فضائل القرآن، وعزاه للإمام أحمد في المسند عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقرأُ القرآنَ في ثلاث؟ قال: {نعم} قال: فكان يقرؤه حتى توفي ([7]).
ومنها حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لاتفقه في قراءة في أقل من ثلاث} ([8]).
قال ابن كثير: (وقد ترخّص جماعات من السلف في تلاوة القرآن في أقلّ من ذلك، منهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه) ([9]).
وذكر آثاراً تدل على أنه كان يقرأ القرآن كله في ركعة من الليل.
وكذلك تميم الداري - رضي الله عنه - وسعيد بن جبير - رحمه الله - ثبت عنهما بأسانيد صحيحة أنهم كانوا يختمون القرآن في ركعة ([10]).
وقد ذكر النووي في التبيان أحوال السلف في ختم القرآن، وعاداتهم في قدر ما يختمون فيه، ثُمَّ قال: (والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهرُ له بدقيق الفكر لطائفُ ومعارف فليقتصر على قدرٍ يحصل له به كمالُ فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة، فليقتصر على قدرٍ لايحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة ([11])) ([12]) ا هـ.
وقال في شرح صحيح مسلم: (والمختار أنه يستكثر منه ما يُمكنه الدوام عليه ولايعتاد إلاَّ ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بإكثار القرآن عنها، فإن كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك فليوظف لنفسه قراءة يُمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره من غير إخلال بشيء من كمال تلك الوظيفة، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف، والله أعلم) ([13]) ا هـ.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (وقد كره غيرُ واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث، كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق بن راهويه، وغيرهما من الخلف.
... عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث ([14]).
وقال عبد الله بن مسعود: مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز ([15]).
وفي المسند عن عبدالرحمن بن شيل مرفوعاً: {اقرؤوا القرآن، ولاتغلوا فيه، ولاتجفوا عنه، ولاتأكلوا به، ولاتستكثروا به} ([16]).
فقوله: {لاتغلوا فيه} أي: لاتبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة، فإن ذلك ينافي التدبر غالباً، ولهذا قابله بقوله: {ولاتجفوا عنه} أي: لاتتركوا تلاوته) ([17]) ا هـ.
¥