والقول بالتوقيف في ترتيب السور هو الذي بنى عليه المؤلفون في تناسب سور القرآن فيما بينها كتبهم، كالبقاعي وابن الزبير الغرناطي من قبله رحمهم الله، ولو قيل بأن ترتيب السور اجتهادي لما بقي للبحث عن المناسبات بينها معنى مقبول إلا لتلمس مقاصد المجتهدين في ذلك من الصحابة.
وترتيب السور سواء أكان بتوقيف أم باجتهاد أم بهما معاً أمرٌ مرعي محترم، فإن كان عن توقيف ففي مراعاته واحترامه وخاصة في كتابة المصاحف التزام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان عن اجتهاد من الصحابة ففيه امتثال لإجماعهم، والإجماع حجة شرعية، وهو في كل الحالتين صيانة لكتاب الله، ودرء لأسباب الفتنة والمفسدة، إذ لو وقع التساهل في ترتيب المصاحف لأدى ذلك على المدى البعيد إلى الاختلاف في تأليف القرآن ونظمه، وتأليف القرآن من أوجه إعجازه عند العلماء.
قال أبو جعفر النحاس رحمه الله (ت338هـ): (فهذا التأليف من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصلٌ من أصول المسلمين لا يسعهم جهله، لأن تأليف القرآن من إعجازه، ولو كان التأليف من غير الله ورسوله لسوعد بعض الملحدين على طعنهم) [الناسخ والمنسوخ 159].
والخلاف بين القائلين بالتوقيف والاجتهاد في ترتيب سور القرآن خلافٌ لفظي، فكلهم يرى ترتيب المصحف على الترتيب العثماني الذي استقر عليه الأمر، ولا يرى جواز مخالفته في كتابة المصاحف، وإنما الخلاف نظري في المسألة.
وأحب أن أنبه إلى أن القول بأن ترتيب السور في المصحف من باب الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم لا ينافي القول بتواتر القرآن الكريم، فهو مقطوع بنقله تاماً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يؤثر فيه تقديم لسورة وتأخير لأخرى، وليس اعتقاد ذلك الترتيب من لوازم الإيمان. انظر: المقدمات الأساسية في علوم القرآن للجديع 135
وقد تكلم عن هذه المسألة الدكتور سعيد الفلاح وفقه الله في تقديمه لكتاب الإمام أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي (708هـ) المعنون بـ (البرهان في تناسب سور القرآن) الذي نشرته جامعة الإمام عام 1408هـ. فراجعه إن شئت وفقكم الله ونفع بكم، وراجع إن شئت كلام الزركشي في الموضوع في برهانه فهو ممن يميل إلى القول بالتوقيف وذكر أدلة.
ـ[أحمد البريدي]ــــــــ[22 Apr 2006, 11:22 ص]ـ
أخي الكريم:تكملة لما ذكره أخي د. عبد الرحمن أنقل لك ما كتبته في رسالتي الدكتوراه عن هذه المسألة:
المطلب الثالث: رأيهُ في حُكْمِ ترتيبِ السُّوَر والآيات
بيّنَ الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله معنى ترتيب القرآن وأنواعه فقال:"
ترتيبُ القرآنِ: تلاوتُه تاليًا بعضُه بعضًا حَسْبَ ما هو مَكْتُوبٌ في المصاحفِ ومحفوظٌ في الصدور.
وهو ثلاثةُ أنواع:
النوع الأول: ترتيبُ الكلماتِ بحيث تكونُ كلُّ كلمةٍ في مَوْضِعها مِن الآية، وهذا ثابتٌ بالنصِّ والإِجماع، ولا نعلمُ مخالفًا في وُجُوبِه وتحريمِ مُخالفته، فلا يجوزُ أنْ يقرأ: للهِ الحمدُ ربِّ العالمينَ؛ بدلاً مِن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة:2)
النوع الثاني: ترتيبُ الآياتِ بحيث تكونُ كلُّ آيةِ في مَوْضِعها مِن السورة، وهذا ثابتٌ بالنصِّ والإِجماعِ، وهو واجبٌ على القولِ الراجح وتحرمُ مخالفته ولا يجوز أنْ يقرأ: "مالكِ يومِ الدينِ الرحمنِ الرحيمِ "بدلاً من: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة:3 - 4)
ففي صحيح البخاري (1) أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان بن عفان ? في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:240) قد نَسَخَتْهَا الآيةُ الأخرى يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} (البقرة: من الآية234) وهذه قبلها في التلاوة قال: فَلِمَ تكتبها؟ فقال عثمان ?:
يا ابنَ أخي لا أُغيِّرُ شيئاً مِنه مِنْ مَكَانِه ".
¥