وروى الإِمام أحمد وأبو داود (2) والنسائي (3) والترمذي (4) مِن حديث عثمان ?: أنّ النبيَّ ? كانَ ينزلُ عليه السُّوَر ذوات العدد، فكانَ إذا نزلَ عليه الشيءُ، دعا بعضَ مَن كانَ يَكْتُب، فيقول: [ضَعُوا هَذِهِ الآياتِ في السُّورَةِ التي يُذْكَرُ فيها كَذَا وكَذَا] (5).
النوع الثالث: ترتيبُ السُّوَر بحيث تكونُ كلُّ سُورةٍ في مَوْضِعهَا مِن المصْحَف، وهذا ثابتٌ بالاجتهادِ فلا يكونُ واجبًا وفي صحيح مسلم (6) عن حذيفة بن اليمان ?: [أنّه صَلَّىَ معَ النبيِّ ? ذاتَ ليلةٍ، فقرأ النبيُّ ? البقرةَ، ثُمَّ النساءَ، ثُمَّ آل عمرانَ]، وروى البخاري (7) تعليقاً عن الأحنف (8):" أنّه قرأ في الأولى بالكهفِ، وفي الثانية بيوسفَ أو يونس
وذَكَرَ أنّه صَلَّىَ مع عمرَ بنِ الخطاب الصُّبْحَ بِهِمَا ". (9)
ولِيَ مع ما تقدّمَ مِن كلامه رحمه الله الوقفاتُ التالية:
الوقفة الأولى: ترتيبُ الكلماتِ مِن الآيةِ وترتيبُ الآياتِ مِن السورة أمْرٌ مُجْمَعٌ عليه كما ذكرَ الشيخُ رحمه الله، وعبَّرَ عنه في مَواضِعَ أخرى بأنّه أمْر ٌتوْقِيفيٌّ، ومعناه أنّه مُرَتَّبٌ مِن قِبَلِ النبيِّ ? وليسَ باجتهادِ الصحابةِ ?؛ فقال:" فترتيبُ القرآنِ مِن لَدُنْ حكيمٍ خبير ?؛ وهو الموافقُ لإصلاحِ القلوب؛ ولهذا نرى مِن الخطأ الفادح أنْ يُؤَلِّفَ أحدٌ القرآنَ مُرَتَّبًا على الأبوابِ والمسائلِ كما صنعه بعضُ الناس؛ فإنّ هذا مُخالِفٌ لِنَظْمِ القرآنِ، والبلاغة، وعَمَلِ السلف؛ فالقرآنُ ليس كتابَ فِقْهٍ؛ ولكنهُ كتابُ تربيةٍ، وتهذيبٍ للأخلاق؛ فلا ترتيبَ أحسنَ مِن ترتيبِ الله؛ ولهذا كانَ ترتيبُ الآياتِ تَوْقِيفيًّا لا مجالَ للاجتهادِ فيه ". (10)
وقد نقلَ الإجماعَ غيرُ واحدٍ مِن أهل العلم، قال السيوطيُّ:" الإجماعُ والنُّصُوص المترادفةُ على أنّ ترتيبَ الآياتِ تَوْقِيفيٌّ لا شُبهةَ في ذلك، أمّا الإجماعُ: فَنَقَلَهُ غيرُ واحدٍ؛ مِنهم الزركشيُّ في " البرهان " (11)،" ... إلى أنْ قال ": وفي سُوَرٍ شَتَّى مِن المفصَّلِ تدلُّ قِراءتُه ? لها بِمَشْهَدٍ مِن الصحابة أنّ تَرْتيبَ آياتها تَوْقِيفيٌّ، وما كانَ الصحابةُ لِيُرَتِّبُوا تَرْتيبًا سمعوا النبيَّ ? يقرأُ على خِلافه، فبلغَ ذلك مَبْلَغَ التواتر ". (12)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"وأمّا ترتيبُ آياتُ السُّوَرِ فهو مُنزَّلٌ مَنصوصٌ عليه فلم يكنْ لهم أنْ يُقدِّمُوا آيةً على آيةٍ أخرى في الرَّسْمِ كما قدَّمُوا سورةً على سورةٍ؛ لأنّ ترتيبَ الآياتِ مأمورٌ به نَصًّا، وأمّا ترتيبُ السُّوَرِ فَمُفَوَّضٌ إلى اجتهادهم". (13)
الوقفة الثانية: يرى الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله أنّ ترتيبَ السُّوَرِ اجتهاديٌّ كما تقدّم، وهو أحدُ الأقوال في المسألةِ، وله قَوْلٌ آخر؛ حيث قال:" والحقُّ أنّ الترتيبَ بينَ السُّوَرِ مِنهُ تَوْقيفيٌّ، ومِنه اجتهاديٌّ،فما وَرَدتْ به السنّةُ كالترتيبِ بين الجمعةِ والمنافقين، وبينَ سبِّح والغاشيةِ فهو على سبيل التوْقِيف؛ فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام قرأَ الجمعةَ قبلَ المنافقون. وقرأَ سَبِّحْ قبلَ الغاشيةِ (14) فهذا على سبيل الترتيبِ التَوْقِيفيِّ، وما لَمْ تَرِدْ به السنّةُ فهو اجتهادٌ مِن الصحابةِ ". (15)
والذي يظهرُ لِي أنّ هذا القَوْلَ هو المتأخِّرُ؛ إذْ إنّ القولَ الأول مَذْكُورٌ في رسالته " أصول في التفسير " وقد ألَّفها قبل عام أربعمائةٍ وأَلْف للهجرة (16)؛ أمّا القَوْلُ الثاني فهو مَذْكُورٌ في كُتُبه التي طُبعَتْ في آخر حياتِه رحمه الله.
وهذه المسألةُ قد اختلفَ فيها أهل العلم على أربعةِ أقوال:
القول الأول: أنّ ترتيبَ السُّوَر تَوْقيفيٌّ كترتيبِ الآياتِ. (17)
القول الثاني: أنّ ترتيبَ الاياتِ كانَ باجتهادٍ مِن الصحابةِ 18)، وهذا هو الرأيُ القديم للشيخِ ابن عثيمين.
القول الثالث: أنّ ما عُلِمَ ترتيبُه بتوْقِيفِ النبيِّ ? وهو الأكثر فهو تَوْقِيفيٌّ، وما لَمْ يَصِلْ إلينا الدليلُ فيه فهو اجتهاديٌّ مِن الصحابةِ ? (19)، وهذا هو الرأيُ المتأخِّرُ للشيخِ ابن عثيمين.
القول الرابع: أنّه كُلَّهُ تَوْقِيفيٌّ ما عدا سورتي الأنفال والتوبة لِحديثِ عثمانَ ? (15).
ولِكُلٍّ أَدِلَّة. (20)
¥