الخيرية في الناسخ, أو مماثلته للمنسوخ متحققة كما قال الله في جميع نواسخ القرآن, ولكن الاهتداء إليها هو ما قد تختلف فيه قدرات المتأملين لذلك, وأذكر هنا كلاماً قيماً للعلامة المفسر: محمد الأمين الشنقيطي - رحمنا الله وإياه - حيث استشكل إشكالين يتعلقان بنفس التساؤل ثم تولى رحمه الله الإجابة عنهما فقال:
اعلم أن في قوله جل وعلا (نأت بخير منها أو مثلها) إشكالا من جهتين:
الأولى: ان يقال إما أن يكون الأثقل خيرا من الأخف, لأنه أكثر أجراً, أو الأخف خيرا من الأثقل لأنه أسهل منه, وأقرب إلى القدرة على الامتثال, وكون الأثقل خيرا يقتضي منع نسخه بالأخف, كما أن كون الأخف خيرا يقتضي منع نسخه بالأثقل, لأن الله صرح بانه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له, لا ما هو دونه, وقد عرفت أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر ...
الجهة الثانية من جهتي الإشكال في قوله (أو مثلها) لأنه يقال:
ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله؟
وأي مزية للمثل على المثل حتى يُنسَخ ويبدل منه؟
والجواب عن الإشكال الول هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر, وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرا جداً, والامتثالُ غير شديد الصعوبة, كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم, فإن في الصوم أجرا كثيرا كما في الحديث القدسي (إلا الصوم فإنه لي وانا أجزي به) والصائمون من خير الصابرين لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم, والله يقول (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال, وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص عليه بقولهفمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر) ..
وتارة تكون الخيرية في الأخف وذلك فيماإذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال, فإن الأخف يكون خيرا منه, لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما لا يرضي الله وذلك كقوله (وإن تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله) فلو لم تنسخ المؤاخذة بخطوات القلوب لكان الامتثال صعبا جداً, شاقا على النفوس, لا يكاد يسلم من الإخلال به, إلا من سلمه الله تعالى, فلا شك أن نسخ ذلك بقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق, وهكذا ..
والجواب عن الإشكال الثاني: هو ان قوله (أو مثلها) يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتيهما, فلاينافي ان يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجةعن ذاته يكون بها خيرا من المنسوخ, فيكون باعتبار ذاته مماثلاً للمنسوخ, وباعتبار مايستلزمه من الفوائد التي لا توجدفي في المنسوخ خيراً من المنسوخ ..
وإيضاحه أن عامةالمفسرين يمثلون لقوله (أو مثلها) بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام, فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتيهما متماثلان, لأن كل واحد منهما جهة من الجهات, وهي في حقيقة أنفسها متساوية, فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملاً على حكَم خارجة عن ذاته تصيره خيراً من المنسوخ بذلك الاعتبار, فإن استقبال البيت الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن, ليست موجودة في استقبال بيت المقدس ..
منها: أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: تزعم انك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلته؛؛
وتسقط به حجة اليهود بقولهم: تعيب ديننا وتستقبل قبلتَنا, وقبلتُنا من ديننا,؛؛
وتسقط به أيضا حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة: أنه صلى الله عليه وسلم سوف يؤمر باستقبال بيت لمقدس, ثم يؤمر عنه بالتحول إلى استقبال بيت الله الحرام, فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليهبما عندهم في التوراة من انه سيحول إلى بيت الله الحرام والفرض انه لم يحول .. انتهى
إضافةً إلى أن عدم ظهور الحكمة والغاية من الشيء في نظرنا القاصر - بحكم بشريتنا وضعفنا - لا يصلح أن يكون دليلاً جازما منا على العلم بعدم وجود الحكمة, وهذه قاعدة يحسن بالناظر فيما يتعلق بأحكام الشريعة وأسرارها ومصالحها أن يستصحبها حتى لا يجره عقله إلى ما تحمد عقباه.
وقد ذكر بعض العلماء ومنهم الإمام الجصاص رحمنا الله وإياه أن قول الله تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها) أن قوله (أو مثلها) لا يلزم كونه قرآنا كما في آية الرجم , بل ربما كان المراد منهخيرا منها في الحكم أو المصلحة وقد يكون ذلك بمحكم السنة كمنا في آية الرجم, التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها بعد ذلك كما في قصة رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز وأمره لأنيس رضي الله عنه برجم المرأة.
ـ[المتدبر]ــــــــ[01 Jan 2007, 10:49 م]ـ
شكرا أخي محمود الشنقيطي عى هذا النقل،،،
والله الموفق