تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا الحوار الذي دار بين ابراهيم وأبيه أولاً، وبين إبراهيم والكون ثانياً، وبين إبراهيم ونفسه ثالثاً – لم يكن مجرد حوار عادى دار ذات ليلة بين اب وابنه، بل كان اعمق من ذلك وخارجا عن المقاييس الزمنية والتاريخية. انه حوار في عمق الوعي الانساني والتجربة البشرية بأسرها، حوار شكل منعطفا مهماً في تاريخ الفكر الانساني واكتملت انعطافته بظهور الاديان السماوية المرتبطة بشكل أو بآخر إلى إبراهيم .. ينطلق ابراهيم في هذا الحوار التاريخي من الشك بالمسلمات التقليدية في مجتمعه*1، ثم عندما يجن الليل عليه، يبدأ بالبحث المباشر عن اله هذا الكون ..

والثالوث الذي تقلب ابراهيم بينه تلك الليلة حتى الصباح لم يكن ثالوثا اعتباطيا، فالقمر والزهرة والشمس هي من العبادات شديدة الانتشار عند الاقوام السامية عموما (ان لم يكن عند غيرها ايضاً). على اختلاف في تقديم القمر على الشمس عند الساميين الغربيين والعرب الجنوبيين، والعكس عند العرب الشماليين .. وقد ظلت هذه العبادة قائمة حتى ظهور الإسلام: ومن أسماء العرب المعروفة: عبد شمس، ومن القبائل المعروفة التي تعبدت للشمس بنى تميم. وكذلك بنو اد: ضبة، تميم، وعدي، وعطل، وثور. ويقال ان اللات – الصنم المعروف الذي تعبد له المشركون والوارد ذكره في القرآن – كان رمزا للشمس، والمعروف ان قريش كانت تصلي صلاة للشمس وعند الضحى .. والقمر ايضا كان معبودا معروفا عند الجاهليين خاصة عند السبأيين*2 اذ هو إلههم الأكبر – واتخذوا الثور رمزا مقدسا له كما تدل على ذلك النصوص الثمودية وغيرها .. ورغم ان الزهرة – وتسمى عثتر – كانت اكثر كوكب تعبد له العرب، الا انهم تعبدوا لكواكب أخرى مثل: الدبران، العيوق، والشعرى (التي ورد ذكرها في القرآن) والثريا، والمرزم .. الخ*3.

ان الكواكب والنجوم والأصنام لم تنفرد بعبادتها الأقوام السامية فحسب، بل شاعت عبادتها في كل أنحاء الارض عبر التاريخ. مع اختلافات متنوعة في التفاصيل لكن الحيرة الإبراهيمية والحوار الإبراهيمي يخرج بهذا عن اطاره الفردي – ليكتسب أبعاداً حضارية – إنسانية عميقة موغلة في القدم: انه بحواره مع ابيه يمثل تمرد جيل جديد على الافكار التقليدية والمسلمات الاجتماعية البالية. والاب هنا هو رمز لكل السلطات والمؤسسات الاجتماعية التي تكرس بقاء التقاليد والمسلمات والأعراف وتوفر لها الحماية والاستمرارية ..

وحوار ابراهيم مع الكون يمثل نضوج العقل الانساني ومحاولته فك اسرار الخليقة بالاعتماد على العقل.

انه يمثل الحيرة والشك الوجوديتين أمام الحياة والموت والوجود ككل، وهو يمثل بالوقت نفسه – محاولة الاعتماد على العقل للخروج من هذه الحيرة وهذا الشك، وذلك برفض كل المسلمات والبديهيات التقليدية .. والبدء من جديد، من نقطة جديدة .. نحو هدف جديد وبأساليب مختلفة وغير تقليدية ..

تلك الليلة التي قضاها ابراهيم متقلبا حائرا على فراش الشك والتساؤلات المزدحمة كانت ليلة طويلة جدا، ولم تنته عندما أشرقت الشمس. اذ انه ظل حائرا يبحث فيها عن ربه .. لكنها انتهت عندما اشرق العقل في داخله. عندما وجد الاجابة عن تساؤلاته فيه. عندما وجد ان الجسر نحو الخلاص موجود في أعماقه، فقط عليه ان يخطو نحوه الخطوة الأولى، متحررا من كل الأحكام التقليدية والنظرة المسبقة والتقاليد البالية- المسيطرة فقط لأنها تنتمي للأولين ..

تلك الخطوة بدأت بالشك بهذه المسلمات في عقل ابراهيم. بدأت بالتساؤلات المزلزلة التي اقتلعت فكرة الأصنام والأوثان من عقل ابراهيم ..

انه الشك. التساؤل الذي سرى مثل التيار الكهربائي ليمنح الحياة والروح إلى العقل الأول: عقل الإنسان الذي سيصير ابا روحيا – بل وجسديا إلى حد كبير – لثلاث أمم وثلاثة أديان سماوية .. انه العقل الذي كون تلك التربة الخصبة المهيئة لاستقبال الوحى الالهي ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير