تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد كانت الشرارة الاولى التي مهدت لنزول الكلمة الالهية هي شرارة احتكاك العقل بالواقع ومعطياته بعيدا عن الأحكام المسبقة والنظرة التقليدية .. انه العقل الذي سبق الوحى بل ومهد له وعبد له الطريق، انه العقل الذي مثل البوتقة التي انصهر فيها الوحى الالهي وتفاعل وتكامل معها .. هل كان يمكن للوحى ان يتنزل على عقل خامل لا شك فيه ولا تساؤلات، هل كان يمكن ان ينمو الايمان في عقل لم يعرف الشك ولم يتقلب بحثا عن يقين، ولم يشك بالمسلمات ولم يلحد بالشرك الغبي المتوارث ..

لا طبعا. الايمان يبدأ من الشك. واليقين يبدأ من السؤال. والوحي الإلهي لم ينزل الا على عقل شكاك، اذ لا يكتمل الايمان الا هناك.

هذا المحور شديد الاهمية هو الذي ركز عليه الخطاب القرآني، فإبراهيم – بنص الخطاب – هو أول المسلمين. والإسلام – هو ملة ابراهيم الحنيف الذي لم يكن من المشركين، والرسالة الجديدة هي تتمة لرسالة ابراهيم الاولى والاصلية ..

وعندما تكون رسالة ابراهيم قد بدأت من تخوم الشك والتساؤلات، ولم ينزل الوحى الا بعد خوضه لتلك التجربة المثمرة: تجربة الشك والتساؤلات، فإن هذه البداية، تدمغ – بطريقة ما – الرسالة الإسلامية ككل، باعتبارها الوريث الشرعي للرسالة الإبراهيمية ..

الإسلام اذن بدأ من الشك، من التساؤل المطلق أمام الحقائق الكونية. من رفض القبول المسبق الغبي الخالي من التمحيص والبحث ..

ولذلك يعلق الخطاب القرآني على رحلة الشك التي خاضها ابراهيم لتكون التربة الصالحة لنزول الوحي (وتلك حجتنا اتيناها ابراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ان ربك حكيم عليم) .. الانعام 83 – الحجة هي العقل، عقل ابراهيم المنفرد السابق على نزول الوحي، هو الحجة الاولى، وتأمل ارتباط هذه الحجة بالحكمة والعلم في اختيار هذين الصفتين دون غيرهما لوصفه عز وجل، فالحكمة والعلم مرتبطتان بل وناتجتان عن العقل – الحجة التي اقامها الله على البشرية، وابراهيم على نفسه اولا وعلى قومه ثانيا ..

* * *

لكن علاقة الشك والتساؤل بالايمان في منهجية الخطاب القرآني ليست علاقة أولية تبدأ حتى تنتهي. فالسؤال هنا ليس إضاءة برق خاطفة تضئ الدرب لوهلة ثم تنتهي إلى الأبد ..

علاقة التساؤل بالايمان – في الخطاب القرآني – علاقة صميمية ومترابطة ولا تنتهي بالوصول إلى يقين نهائي يتحول مع تقدم الوقت الي يقين غبي ومتوارث حاله حال البديهيات والمسلمات التقليدية ..

وعلى العكس مما هو متوقع من عقيدة دينية، فان الخطاب القرآني يقدم ابا الأنبياء – ابراهيم – وبعد ان يكتمل عقله مع الوحى الالهي ويصبح الرسول الذي أصبحه، يقدمه القران في لحظة عميقة، لحظة يحاول من خلالها إعادة النظر واعادة التقييم، ويصل من خلالها، إلى ذروة الايمان التي لا يمكن الوصول اليها الا عبر الشك ..

(واذ قال ابراهيم ربى أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءً ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم) البقرة 260. فابراهيم لم تمنعه مكانة الوحى الالهي التي يتلقاها، والمكانة الرسولية التي تبوأها من ان يعلن صراحة عن حاجته إلى إعادة النظر، عن عدم طمأنية تشوب افكاره وقلبه وعقله، عن تساؤل يقترب من الحدود الخطرة، وعن شك لا يزال يحتاج معه إلى بحث ..

وبالشك وحده وصل إلى اليقين النهائي، وصل إلى طمأنية القلب، الذروة العالية من الايمان التي كان يصبو اليها. هل وصلها بالمزيد من التعبد؟ الاستغفار؟ بالتحنث والانقطاع للعبادة؟ ابداً. ولعله ما كان يصلها ابدا لو استخدم هذه الوسائل. لكنه وصل بالشك. بالتساؤل الذي لا يمثل مجرد محطة عابرة في ايمان ابى الرسل والأنبياء، بل يمثل العلامة الاهم – قرآنياً – في مسيرته الرسولية ..

.. ومن الواضح عبر السياق الوارد في الخطاب القرآني ان هذا التساؤل الإبراهيمي كان بعد نزول الوحى عليه لا كما كان في السياق الأول الذي مهد لنزول الوحى ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير