وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام، كقوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}، وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} (آل عمران)، وكقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} (فصلت)، وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} (الشورى)
وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} (الأعراف)، وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} (الفرقان).
والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما: أن بين مشروعة الانتقام، ثم أرشد إلى فضيلة العفو، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} (النحل)، وقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (النساء: 184)، فأذن في الانتقام بقوله: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، ثم أرشد إلى العفو بقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} (النساء).
الوجه الثاني: أن الانتقام له موضع يحسن فيه، والعفو له موضع يحسن فيه كذلك، وإيضاحه: أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله، ألا ترى أن من غصبت جاريته - مثلاً - إذا كان الغاصب يزني بها، فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور تنتهك به حرمات الله، فالانتقام في مثل هذا واجب، وعليه يحمل الأمر في قوله: {فاعتدوا} الآية. أي: كما إذا بدأ الكفار بالقتال، فقتالهم واجب. بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه من المسلمين بكلام قبيح ونحو ذلك، فعفوه أحسن وأفضل، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إذا قيل حلمٌ قال للحلم موضع************ وحلم الفتى في غير موضعه جهل
رحم الله تعالى الإمام الشنقيطي وأسكنه فسيح جناته، وعلماء المسلمين، ونحن معهم يارب العالمين.
ـ[ميادة بنت كامل الماضي]ــــــــ[29 Jul 2006, 03:42 م]ـ
قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين، ونظيرها قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (سورة يونس:99)، وقوله تعالى: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (سورة الشورى:48).
وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف، كقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (سورة الفتح: 16)، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (سورة الأنفال:39)؛ أي شرك.
ويدل لهذا التفسير الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: [أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله] الحديث.
والجواب عن هذا بأمرين:
الأول، وهو الأصح: أن هذه الآية في خصوص أهل الكتاب. والمعنى: أنهم قبل نزول قتالهم لا يُكرهون على الدِّين مطلقاً، وبعد نزول قتالهم لا يُكرهون عليه إذا أعْطَوُا الجزية عن يد وهم صاغرون.
والدليل على خصوصها بِهِم، ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كانت المرأة تكون مقلاتاً، فتجعل على نفسها إن عاش لها وَلَد أن تهوده، فلما أُجليتْ بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، المقلات: التي لا يعيش لها ولد. وفي المَثل: أحرُّ من دمع المقلات.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف، يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أسْتَكْرَِههما؛ فإنهما قد أبَيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله الآية.
وروى ابن جرير، أن سعيد ابن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية، فقال: نزلت في الأنصار، فقال: خاصَّةً؟ قال: خاصَّة.
وأخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قال: أُكره عليه هذا الحيُّ من العرب؛ لأنهم كانوا أمة أميّة ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يُقبل منهم غير الإسلام، ولا يُكره عليه أهل الكتاب إذا أقرُّوا بالجزية أو بالخراج، ولم يُفتنوا عن دينهم؛ فيُخلَّى سبيلهم.
وأخرج ابن جرير أيضاً عن الضحاك، في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قال: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يَقبل منهم إلا: لا إله إلا الله، أو السيف، ثم أُمر في من سواهم أن يقبل منهم الجزية، فقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضاً، في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وإعطى أهل الكتاب الجزية.
فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المُعطين الجزية، ومن في حُكْمهم. ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن التخصيص فيها عُرِف بالنقل عن علماء التفسير، لا بمطلق خصوص السبب.
ومما يدل للخصوص؛ أنه ثبت في الصحيح: [عَجِب ربُّك من قوم يُقادون إلى الجنة بالسلاسل].
الأمر الثاني: أنها منسوخة بآيات القتال؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية. ومعلوم أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، وسورة براءة من آخر ما نزل بها، والقول بالنسخ مرويٌّ عن ابن مسعود وزيد بن أسلم.
وعلى كل حال، فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية. والمتأخر أولى من المتقدِّم. والعلم عند الله.