[التأويل المقبول والتأويل المردود:]
ـ[أحمد بزوي الضاوي]ــــــــ[03 Aug 2006, 02:06 ص]ـ
يكاد أهل السنة يجمعون على قبول التأويل المبني على أصول اجتهادية صحيحة، وقواعد منهجية وعلمية مقررة وثابتة تمكن المفسر من سبر أغوار الخطاب القرآني ورفع الحجب عن معانيه.
ومن هذا المنطلق نجدهم قد أسهبوا في مناقشة الأحاديث النبوية ورد النهي فيها عن التفسير بالرأي، منها ما رواه "يحيى بن طلحة اليربوعي، قال حدثنا شريك عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من قال
في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار).
والحديث الذي رواه ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي جاء فيه: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار).
وقد لخص الإمام الزركشي آراء العلماء في مناقضة هذه الأحاديث، فحمل النهي فيها على تأويل الخطاب القرآني بمجرد الرأي والهوى، أي من غير أن يكون هناك منهج علمي يقيم الدليل، ويقرع الحجة بالحجة، بل هو مجرد رأي مجتث الجذور لا أصل له ولا قاعدة، مخالف للمنطق والوقع والعلم لأنه نابع عن تعصب أعمى للذات والهوى، مما يحجب عنها الحقيقة التي لا تتجلى إلا لمن أخلص في طلبها من أجل ذاتها لا لأي مقصد او هدف آخر. يقول الزركشي: "ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى: {لا تقف ما ليس لك به علم}. وقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. وقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فأضاف البيان إليهم.
وعليه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من تكلم في القرآن برأيه فاصاب فقد أخطأ)، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال غريب من حديث ابن جندب.
وقال البيهقي في "شعب الإيمان "هذا إن صح فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل. وكذلك لا يجوز تفسيره القرآن به.
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز، وهذا معنى قول الصديق: " أي سماء تظللني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي".
وقد بحث علماء أهل السنة الأسباب التي تجعل من هذا التأويل تأويلا مقبولا، ومن الآخر تأويلا مردودا، وهي ما يمكن أن نصطلح عليه بمرتكزات التفريق بين التأويل المردود والتأويل المقبول، وسنحاول أن نعرض آراء هؤلاء العلماء وذلك لما تفصح عنه من دقة منهجية وأصالة علمية، وشمولية في التفكير، وفي معالجة القضايا المشكلة، ولما تتضمنه من موضوعية حقة تتحقق في أبحاث كثير من دعاة العلمية والموضوعية.
أولا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند ابن عطية (ت 671هـ):
يرى ابن عطية أن السبب الرئيسي في جعل التأويل مردودا هو سبب منهجي، ذلك أن من يروم تفسير القرآن الكريم لابد أن يزود نفسه بجملة علوم ضرورية تمكنه من سبر أغوار الآيات والسور القرآنية والكشف عن معانيها وإدراك، أحكامها وفقه توجيهاتها، ومن ثم فإنه لا يجوز لكل ذي تخصص معين أن يفسر القرآن الكريم من جانب تخصصه فقط. فصاحب اللغة يفسر لغته، وصاحب النحو يفسر نحوه، وصاحب الفقه يفسر آيات الأحكام، فأصحاب الاختصاص بتعبيرنا اليوم، وأهل الجهة باصطلاح السلف الصالح، هم وحدهم الذين يجوز لهم تفسير ما لم يرد فيه نص من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة والتابعين. وهذا نص كلام ابن عطية في هذه المسألة: " ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) ومعنى هذا: أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء، أواقتضته قوانين العلوم كالنجوم والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته، والنحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر. فإن هذا القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه ".
¥