تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[مقدمة في بلاغة القرآن وإعجازه]

ـ[عبدالعزيز العمار]ــــــــ[01 Oct 2006, 01:42 م]ـ

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

فقد أنزل الله هذا الكتاب العظيم، فبهر الألباب، وسلب العقول والأبصار، لِما فيه من حق وجلال، فآمنت به بعض النفوس، وعاند بعضها شقاءً وضلالاً، إلاَّ أن كل واحد من هذين الفريقين وقف مبهوراً من بيان القرآن وعظمته، واعترف بروعة بيانه، وعظمة إعجازه.

وهذا الأثر الذي يتركه القرآن في نفوس سامعيه، ذكر الله طبيعته، فقال يخاطب الناس جميعاً: ? يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ? [يونس: 57]، فهو إذن موعظة، والموعظة من شأنها أنها إذا استقرت في قلب سليم فإنها تهزه هزاً عنيفاً، لا تدع في النفس شيئاً مما لا يرضي الله ـ تعالى ـ إلاَّ اقتلعته من جذوره.

وليس في هذا الكلام عجب، فكم من إنسان معرض عن ربه، بعيد عنه كل البعد ما إن يسمع شيئاً من كلام الله، وتلامس شغاف قلبه حتى تراه يهتز من الأعماق متأثراً بعظمة هذا الكلام، مستجيباً لهاتيك الموعظة البليغة.

وقد عبَّر عن هذا المشهد المؤثر جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ حينما سمع آيات من القرآن من سورة الطور من فيّ رسول الله ? فخفق فؤاده، وطار لبُّه، وقال: ((كاد قلبي أن يطير)). ()

وهذا مصداق لقوله ـ عز وجل ـ ? لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون? [الحشر: 21]، فالجبل على عظمته وشموخه يخشع ويتصدع، فما بالك بقلب ابن آدم، تلك المضغة الطرية الصغيرة؟!

إذن فهذه هي روعة القرآن التي أخذت بلبِّ ذلك العصر الأول كله مؤمنهم وكافرهم، فأما المؤمنون فهو أمر ظاهر للعيان، والواقع شاهد عليه، وأما المشركون الجاحدون فأذكر شاهداً واحداً من شواهد كثيرة، يدل على إعجابهم وانبهارهم بالقرآن العظيم، وذلك: ماكان من أمر رؤساء كفار قريش أبي جهل، وأبي سفيان، والأخنس بن شريق فقد كان كل واحد منهم يتسلل ليلاً فيصغي إلى رسول الله ? وهو يتلو القرآن، يسمعه، ويلذُّ به، ويُطرب سمعه، حتى إذا قفل كل واحد منهم، وجمعهم الطريق، تلاوموا على هذا العمل أشد اللوم، وتعاهدوا ألاّ يعودوا، ثم هم بعد يعودون إليه ثلاث ليال متتابعة. ()

فنرى في هذه القصة أن كفرهم لم يقف حائلاً بينهم وبين الاستماع إلى القرآن الكريم، والميل إليه، لِما يجدون في نفوسهم من النشوة والانجذاب إليه وهو يُلقى على مسامعهم، وصدق الله ? وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ... ? [النمل: 14]، بل ولأمرٍ ما قال هؤلاء الرؤساء لأتباعهم ? ... لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ... ? [فصلت: 26]؛ وذلك أن هذه المقولة تدل بجلاء ((على الذعر الذي كان يضطرب في نفوسهم من تأثير هذا القرآن فيهم، وفي أتباعهم، وهم يرون هؤلاء الأتباع يُسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوها محمد أو أحد أتباعه، فتنقاد إليهم النفوس، وتهوى إليهم الأفئدة، ويُهرع إليهم المتقون، ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقولة وهم في نجوة من سحر القرآن، فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روَّعتهم ما أمروا أتباعهم هذا الأمر، وما أشاعوا في قولهم هذا التحذير الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير)) ()، ومن هنا يتبين أن المشركين لم يجدوا حلاً لوقف أثر القرآن الكريم في نفوس الناس إلاً بهذا العمل المشين، وما هي إلاَّ حيلة العاجز المغلوب على أمره.

وهذه المؤامرة ـ كما يذكر الطاهر بن عاشور ـ: ((من شأن دعاة الباطل والضلال أن يكمموا أفواه الناطقين بالحق والحجة بما يستطيعون من تخويف وترهيب وترغيب، فهم لا يدعون الناس يتجادلون بالحجة، ويتراجعون بالأدلة؛ لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهض، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها، ولكن بأساليب من البهتان والتضليل، فإذا أعيتهم الحيل، ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعمَّ نورها الناس الذين فيهم بقية من خير ورشد، عدلوا إلى لغو الكلام، ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة؛ لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق، ويغمرون القول الصالح باللغو، وكذلك شأن هؤلاء)). ()، وإن أعيتهم هذه الحيلة ـ أيضاً ـ ولم يجدوا نفعها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير