[من روائع الاستنباط: الاستنباط بالمطرد من أسلوب القرآن ..]
ـ[فهد الوهبي]ــــــــ[21 Jun 2006, 03:28 م]ـ
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ..
فإن هذا النوع من طرق الاستنباط من القرآن ليس ضمن دلالات الألفاظ التي يذكرها أهل الأصول، بل هو طريق مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله (1)، وخطابِ الخلْق به (2).
قال الشاطبي (ت: 790) في هذا الطريق: "والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعدُ الشرعية، على كثيرٍ يشهد بها شاهدُ الاعتبار، ويصححها نصوصُ الآيات والأخبار" (3).
معنى أسلوب القرآن:
تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه، ومقاصده من كلامه، أو هو طابع الكلام، أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك.
وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم: هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه (4).
والمُطَّرِدُ مأخوذ من اطَّرد الشيء: إذا تابع بعضه بعضاً، ويقال: اطَّرد الأمر أي: استقام (5).
والمراد بالمطرد من أسلوب القرآن: تتابعُ الأَفْعَالِ، واختيارِ الألفاظ، تجاه أمرٍ ما في القرآن الكريم.
كتتابع إخباره تعالى عن نفسه تعذيب الأقوام لنفس العلة من الكفر والفسوق، وكتتابع اختياره تعالى للكناية فيما يستحيى من ذكره في الغالب، فيكون ذلك مطرداً من أسلوب القرآن الكريم.
ومن طريقة القرآن وعادته والمطرد من أسلوبه؛ استنبط العلماء عدداً من الأحكام والفوائد والآداب، إذ القرآن كلام الله، وفعله تعالى محل للاقتداء والاستنباط.
وجهةُ الدّلالة في هذا الطريق: هو الاقتداء بأفعال الله تعالى، قال الشاطبي (ت: 790) بعد سوق عددٍ من الأمثلة: "هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يُستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهةٍ أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال" (6).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ): " وأصل هذا (7) أن الأصل قول الله تعالى، وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل (8) ... وإن كانتْ قد جرتْ عادةُ عامَّة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه" ومَثَّلَ لذلك بقوله: "وأما فِعْلُ الله ـ كعذابه للمنذَرين ـ فإنه دليلٌ على تحريم ما فعلوه ووجوب ما أمروا به، وكما استدلَّ أصحابنا وغيرهم من السلف بفعل الله تعالى ورجم قوم لوط على رجمهم، وأما ترك القول فكما يستدل بعدم أمره على عدم الإيجاب وبعدم نهيه على عدم التحريم ... وأما ترك الفعل فكإنجائه للمؤمنين دون المنذَرين" (9) (10).
وإذا ثبت أنَّ آحاد فعل الله تعالى محلٌّ للقدوة والاستنباط فأولى أن يكون كذلك ما كان مطرداً من فعله جلَّ وعلا.
أمثلة للاستنباط بهذا الطريق:
المثال الأول:
ومن الاستنباطات الكلية ما ذكره الشاطبي (ت: 790 هـ) عن أسلوب القرآن بقوله: "كلُّ حكايةٍ وقعتْ في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها ـ وهو الأكثر ـ رَدٌّ لها أو لا. فإنْ وَقَعَ رَدٌّ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه؛ وإنْ لم يَقَعْ معها رَدٌّ فذلك دليلُ صحةِ المحكي وصِدْقِه" (11).
وأما في وجه صحتها فقال: "ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها؛ فإن القرآن سُمِّيَ فرقاناً، وهدى، وبياناً، وتبياناً، لكل شيءٍ؛ وهو حجةُ الله على الخلق على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم؛ وهذا المعنى يأبى أن يُحكى فيه ما ليس بحقٍّ ثم لا ينبّه عليه" (12).
فأنت ترى أنّ الشاطبي (ت: 790 هـ) قد استنبط من عادة القرآن في عدم الرد، صحةَ المحكي. وقد مثل لذلك بأمثلة متعددة ومنها (13):
استنباط جماعة من الأصوليين أن الكفار مخاطبون بالفروع من قوله تعالى: (قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين) [المدثر: 43، 44] (14).
ووجهه: أنه لو كان قولهم باطلاً لَرُدَّ عند حكايته (15).
ومنه: استنباط بعضُ العلماء أن أصحابَ الكهف سبعةٌ وثامنهم كلبهم، من قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب .. ) الآية [الكهف: 22].
¥